"المسرح!" كانت الكلمة الأولى التي افتتح بها فنان العرب محمد عبده حديثه لبيلبورد عربية، بعد سؤالنا له عن النشاط الفني الأقرب إلى قلبه بين التسجيل في الاستديو أو التلحين أو الأداء أمام الجمهور وعلى المسرح: "نحن بدأنا من مسارح الشوارع، المسارح المفتوحة للناس مباشرةً"، جاء جوابه واضحًا سريعًا، بثقة متوقعة من قامة فنية لها باع في الموسيقى يكاد يصل إلى ستين عامًا هي الجزء الأكبر من سنوات حياته. شهد خلال هذه العقود المتتالية على التبدّلات الكبيرة في المشهد الموسيقي في السعودية أولًا، ثم في الخليج والمنطقة العربية. وقف شاهدًا، وهو ابن أربعة عشر عامًا، ليتابع رحلة دخول الموسيقى الشرقية إلى المملكة، ورافق الروّاد من الملحنين والموسيقيين في تلك الحقبة ليتعلم منهم ويتدرّب على أيديهم.
بعد المسرح، شكّلت الإذاعة المحطة الأولى والأبرز في مسيرة محمد عبده الفنية، إذ نجده ينتهز كل فرصة خلال الحديث للعودة إليها واستعادة ذكرياتها، فيشرح عن نشاطها وتأثيرها على تجربته مع أبناء جيله، ويستحضر ذكرى الرفاق الذين عرفهم عن طريقها. التحق محمد عبده بالإذاعة السعودية منذ تأسيسها في بداية الستينيات، وارتبطت، بحسب روايته، بأكبر لحظة خوف في حياته وقد استحضرها قائلًا: "عندما فتحت الإذاعة السعودية ذراعيها لإنشاء فن محترم، حبت هي إنها تتبنى فنان تخرجه بنفسها وعلى ثقافة تكون منضبطة" مما قاده أيضًا إلى أكبر لحظة حزن يذكرها من بداياته: "طبعًا اللحظة الحزينة اللي مرت في حياتي عندما سمعت صوتي من الإذاعة، كانت مرحلة من حزن وبكاء وربما أخدت فيها دور من الديبريشن"، يشرح محمد عبده أنه اعتبر الخوف والحزن محرِّكَين للأمل، والأمل دومًا مبعثًا للفرح، فبعد أن سمع صوته يؤدي على أثير الإذاعة، أدرك أنه قد أصبح فنانًا بشكل رسمي واحترافي. أشعره ذلك أنه يواجه المجهول، وألقى عليه شعورًا كبيرًا بالمسؤولية ، فلجأ لاتّخاذ عمل آخر خاص بالتوازي مع الفن ليهدِّئ القلق والحزن اللذين بعثتهما تلك الفكرة في تلك المرحلة من حياته.
وضوحًا، مثّلت الإذاعة في تلك المرحلة من التاريخ، وفي المملكة تحديدًا، ما يتجاوز المفهوم النمطي في أذهاننا اليوم عن الراديو. لم تكن محطة لبث الأغنيات فحسب، بل كانت بيتَ الفنان، وشركة الإنتاج، واستديو التسجيل، ومنصة التوزيع والانتشار، مختصرةً كمؤسسة، في ذلك الحين، كل هذه المهام بمصطلحاتها المعاصرة. تحدَّث فنان العرب كذلك عن دور الإذاعة السعودية الثوري في دخول الموسيقى الشرقية إلى المملكة العربية السعودية في بداية الستينيات، عبر استقدامها لفرقة موسيقية بعازفيها من بلاد الشام. فالألوان التراثية التقليدية التي عرفتها شبه الجزيرة العربية قبل ذلك كانت ألوان الإنشاد الجماعي المشتقّة من الشعر، ومنها ما نعرفه اليوم من ألوان بصيغتها العصرية كالشيلات.
وبعد مرحلة التأسيس بخوفها وحزنها ومسؤوليتها وأعبائها الفردية، بدأت مرحلة خاضها محمد عبده إلى جانب رفاق دربه ضمن شكل من أشكال النشاط الجماعي، فأثّر وتأثّر بتجارب مَنحوله. من أبرز الذين تأثّر بهم يذكر محمد عبده دومًا الملحن عمر كدرس، رحمه الله،فيتحدث عما نهله منه وتعلمه في رفقته: "...نهلتُ منه معلومات كثيرة جدًا أفادني فيها بانفتاحه على الأنغام الشرقية وتسمياتها وعزفه المبهر على العود فكنتُ مصاحبه وأجلس معاه لكي ألاحظ. جيت له بموهبتي المتواضعة كهاوي أعزف عود وأغني، ولكن استفدت منه حاجات كثيرة جدًا".
شكّلت فترة النشاط تلك موجة انتقلت من السعودية إلى الخليج بأكمله، إذ يذكر فنان العرب مبتسمًا ما سمّاه مجلس تعاون فني سبق حتى تأسيس مجلس التعاون الخليجي. كما ترافقت بمزيد من الانفتاح على النشاط الموسيقي في مصر، ففي السبعينيات حمل محمد عبده الشاب مشروعه إلى مصر لتقديم نفسه وتوسيع آفاقه. أكد في حديثه في هذا السياق، أنه ذهب إلى مصر متأهبًا وعلى أتم الجهوزية: "عندما ذهبت إلى مصر كان عندي مشروع، كنت جاي بألحاني وجاي برؤيتي، جاي أشهر بلدي، يعني مشروع فني متكامل سعودي... اللي استفدته من رحلتي إلى مصر وكانت عام ١٩٦٩ أول رحلة، هو الاستفادة من الورش الموسيقية الموجودة عندهم في إبراز اللون الخليجي". استطاع بذلك إثبات نفسه بجدية كصاحب مشروع فني، وتعاون مع ملحنين مصريين أيقونيين، مثل رياض السنباطي الذي غنّى من ألحانه أوبريت وطني. تعاون أيضًا في تلك الحقبة مع الشاعر المصري الراحل عصمت الحبروك ليصوغا سويًا أغنية رثاء لأم كلثوم بعنوان بلبلي الصدّاح بالتزامن مع شيوع خبر وفاتها، الذي هزَّ محمد عبده وقد كان من محبيها الذين اغتنموا كل فرصة لحضور حفلاتها في مختلف العواصم العربية. مع استمرار نشاطه في المملكة ومواصلته رحلاته إلى مصر، كان قد أنجز، مع بلوغ مرحلة الثمانينيات، أغنيات تردّد صداها في مجمل المنطقة العربية مثل أيوه ولا تردين الرسايل مركب الهند.
بعد استعراض هذه الحقب الزمنية الطويلة والتي تبدو اليوم بعيدة، انتقلنا بالحديث إلى شخصية الفنان المعاصر، مع تبدّل أساليب الإنتاج بين الماضي والحاضر، يجد محمد عبده أن الجيل الصاعد من الموسيقيين هو جيل محظوظ جدًا: "اليوم أصبح الطلب أكثر من العرض"، مشيرًا إلى وفرة المحطات ومنصات البث التي تسمح للموهبة بتقديم نفسها إلى الجمهور، ويتابع شارحًا وجهة نظره عن خصوصية العلاقة بين هذين الطرفين:"ما تقدر تنكر إن الفنان اللي ما عنده جمهور ما عنده فن. يعني الجمهور مو غبي، لازم يفضل شيء ما في هذا الفنان". وبكل الأحوال، تبقى بعض الجوانب التي تصقل جوهر الفنان ثابتة مع تبدل العصور، فيقول: "الفنان مرحلتان، مرحلة موهبة ومرحلة دراسة. الموهبة معروفة، والدراسة مكتسبة".
كما أجرى مقارنة بين عمليات التأليف والتسجيل الموسيقي بين الأمس واليوم مع تبدل التقنيات وتطوّر التكنولوجيا: "تجربتي مع التلحين ماهي سهلة، لأني بكون بطيء جدًّا فيها. اليوم التكنولوجيا ممكن تختصر الوقت" وإن كان يعتبر أن هذه السهولة والسرعة قد تترافق مع شيء من الكسل عند الفنان، مستعرضًا الجهد والتركيز والانضباط وآداب احترام الوقت والمواعيد التي كانت تفرضها عملية تسجيل أغنية في الماضي. أما بانتقالنا للحديث عن الذكاء الاصطناعي ومستقبل الصناعة الموسيقية، فأكّد:"أنا من أنصار التقدم العلمي. والعلم يجب عمومًا ألا يتوقف"، ليتبيّن أنه تمعّن بالصوت الذي تنتجه أدوات الذكاء الاصطناعي خصوصًا في الألوان الشرقية وفحصه بدقة، ليرى أنها مازالت بعيدة عن الإتقان خاصة في الألوان التي يتطلّب أداؤها الارتجال والإبداع.
أما عمّا يعايشه في المرحلة الحالية من انفتاح كبير تشهده المملكة على صعيد النشاط الفني والموسيقي بما يتوافق مع رؤية السعودية ٢٠٣٠، فيعلّق: "ما نراه اليوم هو اختزال للماضي كله. عرف المسؤولون عندنا متى يستخدموه ومتى ينطلقوا به.هذه مرحلة حقيقةً ذكية جدًا بحيث نبدأ نحن من حيث انتهى الأخرون."