وصل ديستانكت إلى موقع التصوير في الصباح الباكر دون أي تأخير، جلس هادئًا منعزلًا بانتظار انتهاء التحضيرات. حاولنا تجاذب أطراف حديث اجتماعي ودي سطحي بغرض تمضية الوقت بشكل أساسي، لكن إجاباته جاءت مقتضبة قدر الإمكان، بل غالبًا ما أجاب على السؤال بسؤال، وكأنه اهتم بمعرفة المزيد عمن حوله أكثر من اهتمامه بإخبارهم عن نفسه، قبل أن يعود إلى صمته بكل الأحوال. ربما كان الاستيقاظ باكرًا لهذه الدرجة أمرًا غير معتاد له، لربما كان ذلك مفعول النسمات الباردة مقابل الشمس الصحراوية والهدوء في المكان، أو تأثير الصيام في نهار رمضاني طويل كهذا. بكل الأحوال تسبب هدوءه بشيء من القلق لنا، ماذا لو لم يجري الحديث بإسهاب وتفصيلية كما خططنا له؟
انتهت التحضيرات وجلسة التصوير سريعًا، بدا خلالها ديستانكت مرتاحًا أمام العدسة، بثقة هادئة سرّعت وسهّلت سير العملية، قبل أن ننتقل إلى موقع جديد وهو المطعم المغربي "طاجين" في منتجع The One and Only في دبي لنبدأ مقابلتنا المصورة مع ديستانكت هناك. ما إن توجهت إليه الكاميرا وثبّت المايكروفون وبدأ التصوير مع طرح السؤال الأول عليه، حتى بدّل ديستانكت كل انطباع كنا قد شكلناه عنه منذ الصباح. تبين أن لدى ديستانكت الكثير الذي يود أن يرويه ويشاركه. وصلت إجاباته واضحةً وواثقة قبل انتهاء السؤال المطروح عليه أساسًا، ليروي لنا الحكاية منذ البداية، من نشأته في بلجيكا مع والديه اللذان أحاطاه بالموسيقى العربية وصوت أم كلثوم وفناني الزمن الجميل والأغاني المصرية والخليجية، مرورًا بالحديث الشراكات التي ارتبطت بمسيرته منذ انطلاقتها من منتجين موسيقيين وفنانين آخرين، وصولًا إلى رؤيته لمشروعه الموسيقي كفنان مغربي أولًا ثم في علاقته مع جمهور العالم العربي. كشف الحديث عن عمق اطّلاع ديستانكت على الصناعة الموسيقية في المنطقة وخاصةً في حالة فناني شمال أفريقيا وخصوصية مشهدهم مع تنوع التأثيرات الموسيقية فيه، وانقسام جمهوره بين المغرب وأوروبا والعالم العربي.
سجّل ديستانكت اسمه في السنوات القليلة الماضية بين أبرز فناني جنرا الأفرو بيت في شمال أفريقيا، مع هيتات وتعاونات متتالية تحول كل منها إلى ترند على وسائل التواصل الاجتماعية محققةً عشرات ملايين الاستماعات. أما مع انطلاقة قوائم بيلبورد عربية، فتبين بوضوح أكبر مدى عمق تأثير ديستانكت في المشهد الموسيقي لشمال أفريقيا. عبر الاسابيع المتتالية حجزت أكثر من خمس هيتات لديستانكت، صادرة في فترات مختلفة، مراتب متقدمة على قائمة هوت 100 وآخرها "ولا "5,7,10. أما أغنيته "لا" التي كانت قد صدرت ضمن ألبومه "ليالي" فقد عادت لتتصدر بعد صدور الفيديو كليب الخاص بها، وتصبح بين الأغنيات القليلة التي تستطيع انتزاع صدارة المرتبة الأولى في قائمة هوت 100. إصدارات أخرى من مدة زمنية سابقة مازالت تحافظ على شعبية كبيرة مثل "تك تك" مع إم اش دي و"يدور" مع سولكينج و"غزالي" مع براين إم جي والتي يرتبط انتشارها بحدث مميز. حيث تفاجأ ديستانكت بعد حضوره لمباراة منتخب بلده ضد بلجيكا في كأس العالم في قطر 2022 أن اللاعبين قد شغلوا أغنيته للاحتفال في الكواليس، مما ساهم بانتشارها بشكل مضاعف حينها، وربطها للأبد بالإنجازات التاريخية الغير مسبوقة التي حققها منتخب المغرب في البطولة الأكبر عالميًا.
يدرك ديستانكت أن شريحة اكبر من جمهوره تعرفت إليه فيما يلي "غزالي"، لكنها لم تكن أبدًا نقطة البداية له: "كثير من الناس الجدد الذين يستمعون إلى أغاني فإنهم يعرفونني من أغنية غزالي. ولكن قبل ذلك كنت أصنع موسيقى هولندية. وفي عقلي أردت دائمًا أن أصنع موسيقى عربية لكني انتظرت الوقت المناسب. كانت الأغنية لدي منذ وقت طويل وهي بعنوان 'يا لا لا' وكانت أغنية ضاربة بالنسبة إلي ولكن الأمر أن الأغنية كانت ناجحة لكن لم يدرك أحد ذلك. لذا كنت أعمل على تطوير نفسي، كيف سأعرف العالم عن نفسي؟ أريد أن أري الناس من يكون ديستانكت. قلت في نفسي أني اريد الناس أن يروا ثقافتي، وحتى إن كنت أصنع موسيقى عربية فهي ليست حصرية بالمغاربة أو الناطقين باللغة العربية."
ولد ديستانكت ونشأ في بلجيكا لوالدين مغربيين مهاجرين، ولكن علاقته بجذوره المغربية بقيت متينة، فهويته كفنان مغربي فوق كل شيء، وقد ساعده إتقانه للدارجة على العودة إلى المغرب عبر أغانيه موسيقاه، بدءًا من أغنية "يا لا لا" التي صدرت في العام 2019 معلنةً عن مشروعه الفني. تتابعت إصداراته مع منتجين ثابتين غلّفوا أسلوبه الموسيقي بثيمات مضبوطة وثابتة أبرز أنليديد ويام ورايدر سينو، الذين يسميهم ديستانكت أخوته. ومع الحفاظ على الأسلوب الموسيقي الذي يتمحور في غالب الوقت حول الأفروبيت، بدأ ديستانكت مؤخرًا بالتجريب بالدمج في اللهجات ما بين الدارجة والمصرية أو الدارجة والخليجية.
"أعتقد أننا في حقبة جديدة في الوطن العربي، والموسيقى العربية لن تبقى من أجل العرب فقط. قد قلت هذا في مقابلة اخرى كذلك، أن الموسيقى الإفريقية رائجة جدًا الآن، ولكنهم أيضًا كانوا في مرحلة النمو، والآن نرى أن الجميع يستمع إلى الموسيقى الأفريقية أو الجميع يستمع إلى الموسيقى اللاتينية وإن لم يكن الجميع يتكلم الإسبانية او ما شابه. وهذا ما أحاول فعله للموسيقى العربية" يدرك ديستانكت ذلك فيحكي عنه بثقة بعد أن لمس الوقائع في تحربته الشخصية، حيث كان في بداياته حينما يحاول تقديم موسيقاه لمنظمي الحفلات والمنصات خلال بداياته في أوروبا، كان يقابل بالرد ذاته، أن الموسيقى العربية هناك محصورة في أعراس العرب والجاليات ولا مكان لها في الحفلات العامة والجمهور الغربي. أما اليوم بعد سنوات، فيقف ديستانكت برصيد كبير من الهيتات، وجولة موسيقية بيعت تذاكرها بالكامل بمجرد الإعلان عنها في أمريكا وفي أوروربا، ليؤكد أن زمن حصر الموسيقى بجمهور معين قد انتهى، وأن الزمن والوقت الحالي هو وقت الموسيقى العربية ودورها في الوصول إلى الجمهور العالمي.