باريس - الرباط: حكاية حفلتين أسطوريتين للست أم كلثوم

نروي قصة حفلتين أسطوريتين لأم كلثوم، الأولى على مسرح الأولمبيا بباريس عام 1967، والثانية على مسرح محمد الخامس بالرباط في المغرب عام 1968
No Image
Change Font Size 20

باريس - 1967

المكان: مسرح الأولمبيا الشهير في باريس. الزمان: 13 نوفمبر/ تشرين الثاني. تقف مغنية مصرية ملقبة بـ "كوكب الشرق" آنذاك، وهي تتحكم تحكمًا تامًا ساحرًا بالجمهور، الذي يضج بالتفاعل بالآهات وصيحات الثناء والتصفيق بينما باريس بأكملها نائمة. تتجاوز الساعة الواحدة صباحًا والجمهور مازال يسكر بالطرب، حين يقرر شاب أن يهجم فجأة على المسرح ليقبّل قدمها. تحاول الست فك قدمها من يديه، فترتبك تمامًا وتسقط على المسرح، قبل أن يتدارك الجميع الموقف بعد لحظات من الصمت بين الانسجام معها، والصدمة مما حدث. يصحب الحراس الشاب خارج المسرح، وتستدرك أم كلثوم ما حدث بغنائها للشطر الشهير من قصيدة الأطلال "هل رأى الحب سكارى، مثلنا"، مبتسمة، والجمهور يضحك من ذكائها، ومن ندرة الفعل الذي شهدوه لتوهم على المسرح.

يمكن أن يكون لفنان عمل موسيقي أيقوني، أو نتجاوز حتى فنقول أسطوري، لكن لتحصل أحد العروض الحية على تصنيف أسطوري، فالأمر مختلف. يكمن الاختلاف في الملابسات، وتوالي وتسلسل الأحداث المؤدي للحظة، ودائمًا ما تشكل ظروف خارجية محيطة حساسية اللحظة، سواء إحساس الفنان بالتقليل منه، أو جهل المنظمين بقدرات الظاهرة الثقافية من ثقافة أخرى، أو الأداء مع هم نفسي أو بدني أو مرض، أو التجلي الحركي والصوتي، أو تفاعل الجمهور والانسجام المبني على الإرث التاريخي، والرصيد المتراكم لسنوات. ثمَّ لا ننسى الأدرينالين الذي ينبعث لدى أي تفاعل ونشاط جماهيري، ويشكّل القالب الذي يحوي كل تلك العوامل ويكون ناتجها ليترك في نفوس الحاضرين أثرًا لا يُمحى. أدرينالين كالذي ينطلق في الأحداث الرياضية التاريخية، ويتذكره معاصروه بنفس النشوة كل مرة، كمباراة محمد علي مع جورج فورمان 74، أو أداء مايكل جوردان في نهائيات 98، أو تجلي مارادونا في كأس عالم 86. نقلت أحداث موسيقية معدودة مثل تلك الأحاسيس؛ كأداء فرقة كوين في حفلة Live Aid في عام 1985، وحفل 1,2,3 Soleils في باريس عام 1998، وجولة مايكل جاكسون History World Tour في 1997، وحفل لوتشيانو بافاروتي وجيمس براون في إيطاليا عام 2002.

كان عام 1967 عصيبًا على جموع الشعب المصري، في الخامس من يونيو/ حزيران بدأت حرب النكسة التي انتهت بهزيمة الجيش المصري وتراجعه وفقدانه لشبه جزيرة سيناء. أعلن في خضم تلك الأحداث الرئيس جمال عبد الناصر تنحيه عن الحكم في التاسع من نفس الشهر، قبل أن يعدل عن تنحيه بساعات استجابة للمطالبات الشعبية باستمراره. حالة من الاحتقان والتوتر سرت في الحياة اليومية للمصريين بعد تصاعد أحداث متوترة بالأساس منذ عام 1956. ولمن يلجأ المصريون في حالات مثل تلك إلا لحفلات أم كلثوم الليلية المذاعة على الإذاعة المصرية، كي تسري عنهم همومهم. لكن ما حدث عقب تلك الهزيمة هو أن أم كلثوم نفسها قررت أن يكون لها دورها فيما يحدث بالمساهمة في إعادة بناء الجيش المصري بالمعدات الحربية اللازمة، مقدمةً مردود حفلاتها وجولاتها الخارجية والداخلية لصالح وزارة الدفاع، مشترطة في الحفلات الخارجية أن يكون الأجر بالدولار والجنيه الإسترليني لأنها العملات المستعملة في التبادل التجاري والتسليح. برزت بين حفلاتها الداخلية حفلة دمنهور مع 3500 مستمع، وإيرادات تصل إلى 39 ألف جنيه، وحفلة الإسكندرية التي حصدت مائة ألف جنيه، وحفلة المنصورة التي حصدت 125 ألف جنيه. بينما كانت أبرز محطات الجولة الخارجية السودان و لبنان وليبيا وإمارة أبو ظبي وتونس، وحققت الجولة بأكملها ما يوازي 510 ألف دولار أمريكي.

في نفس الفترة، وعلى بعد أكثر من ثلاثة آلاف كيلومتر كان برونو كوكاتريكس مدير مسرح الأولمبيا - باريس الأشهر بفرنسا، وأحد أشهر مسارح أوروبا، والذي أقام حفلات لظواهر تلك الفترة الموسيقية مثل فرقة البيتلز وإديت بياف، يبحث عن الانفتاح على ثقافات العالم الشرقية. كان يحاول تقديم أصوات مختلفة للجمهور في "أولمبياد أولمبيا"، بمزيج من العروض الاستعراضية والغنائية، وقد كان هذا التصور الاستشراقي القادر على خلق الشو بالنسبة برونو، كأي غربي لم يتعمق في الثقافة الشعبية لذلك الشرق المتخيل، حيث الكل شخصيات أسطورية خارجها لتوها من قصص "ألف ليلة وليلة". وكأي منقب عن الآثار، سافر إلى بلد "الأخرامات" مصر، وقابل وزير الثقافة آنذاك والكاتب والباحث ثروت عكاشة، والذي نصحه بالتعاقد مع أم كلثوم على الفور. ظنّها برونو فنانة إستعراضية، لكن عكاشة أكد له أنها مغنية عظيمة سيدرك قيمتها في مسرح الأولمبيا. ذهب كوكاتريكس لمقابلة أم كلثوم في منزلها في الزمالك بحضور الكاتب ومترجم الفرنسية الشاب الواعد آنذاك محمد سلماوي، ليكون وسيطًا بالتواصل والاتفاق. تفاجأ برونو من تلك السيدة التي تريد أن تحصل على أجر أعلى من أجر إديت بياف؛ نجمة فرنسا آنذاك، ولكن سببًا ما جعله يوافق على شروطها. تم الإتفاق على أن تصل أم كلثوم إلى فرنسا قبل الحفل بأربعة أيام، وطرحت التذاكر في الشباك الخاص بالمسرح، وطوال فترة إتاحتها وقبل وصول أم كلثوم، لم تباع الكثير من التذاكر. اعتبر كوكاتريكس مباشرةً أنه قد أقام رهانًا مع نفسه ولم يفز به، وبدأ يفكر كيف يصل لتسوية بخصوص تسوية تخص الأجر المرتفع للغاية.

فكر برونو المحبط في أن يقدّم التلفزيون الفرنسي حواراً مع أم كلثوم يذاع بعد نشرة الأخبار مساءًا. ما حدث بعد هذا الحوار بدأ ينسج خيوط الأسطورة، فكأن أحدهم قد دخل بيت كل عربي مغترب في فرنسا والدول المحيطة ليعلن أن أم كلثوم في الدار. شهدت المبيعات ارتفاعًا قياسيًا، خاصة من الجمهور المغاربي المهاجر في فرنسا. انضمَّ جمهور إضافي عبر رحلات من ألمانيا وإنجلترا لحضور الحفل. نفذت التذاكر في وقت قياسي، حتى أن برونو اضطر أن يتيح مساحات معينة للجمهور الواقف بحيث يزيد سعة المسرح. تقول الأسطورة أن بعض الأمراء حجزوا تذاكر وجلسوا بمقصورات خاصة بعيدًا عن أنظار الجمهور العام، وأن أحد الأثرياء الراغبين لحضور حفلة لأم كلثوم حاول أن يشتري تذكرة ففشل بسبب نفاذ الكمية، فعرض مبالغ ضخمة مثل مئة ألف يورو للتذكرة، ثم مئة وخمسون ألفًا، ثم هدد بإطلاق الرصاص على نفسه، ليُسمح له بمكان واقفًا.

استمر مسلسل سوء التواصل الثقافي الكوميدي للغاية بين كوكاتريكس وأم كلثوم، فعندما سألها كم أغنية ستؤدي، أجابت باثنتين أو ثلاثة على الأكثر: أنت عمري والأطلال وبعيد عنك. جعله ذلك يظن أن كل هؤلاء أتوا ليسمعوا أم كلثوم لعشرين دقيقة ثم يرحلون، ولم يفهم أين الحدث في ذلك. لكنه سرعان ما وجد نفسه يشهد حالة من خمس ساعات ونصف تقريبًا لمغنية تستحوذ على الجمهور في كل ثانية، في سن تعدى الستين. نقل صوتها المستمعين بين حالات شعورية مختلفة، من الحرية المسلوبة، إلى الحب الذي لم يجد سكارى مثلها هي وحبيبها، ثم التندر على الحب الذي كان، كل هذا في أغنية واحدة. شهد مدير المسرح الفرنسي الشابات والشباب الذين قبّلوا يدها قبل أن تغني مباشرة وهي على المسرح، حتى لحظة هجوم الشاب الشهيرة التي التقطها المصور المصري فاروق إبراهيم، وغضب منها برستيج الست حين نُشرت، لكنها عاشت مفتاحًا لسرد أسطورية الحفلة.

تابع برونو كيف ذاب الجميع في نسيج سحر أم كلثوم، وشهد وعده الدكتور ثروت عكاشة حين قال له أنه سيعرف بنفسه، حين رصد وجود جمهور من خلفيات وديانات وقوميات متنوعة يتماهون مع صوتها بانسجام، وكأنهم خلعوا أيدولوجياتهم على باب المسرح. راقب الشخصيات العامة والمهمة التي حضرت العرض وانصهرت وسط الجمهور وكأنها غير موجودة، والمهاجرين الهائمين بين أوطانهم ودول العالم الأول ذات الفرص الأفضل. لخمس ساعات ونصف شعر الجميع بالحرية المطلقة تحت عباءة الموسيقى، باريس نائمة وهم ساهرون يُطربون، حيث كل القيود الذهنية انهارت، فلم الأسر، والدنيا لديهم؟

يعتبر ذلك الحفل أحد أعلى الحفلات إيراداتًا في تاريخ المسرح الباريسي، وقد خصصت لسرد وقائعه جريدة لوموند فصلاً ضمن ملفها حول أعظم الحفلات التي أقيمت في باريس.

الرباط - 1968

وقفت مجموعة من محبي أم كلثوم، بالإضافة إلى فوج الصحفيين المغاربة والعرب، ليغنوا لطائرة أم كلثوم الخاصة من نوع كافاريل الموفدة لنقلها من القاهرة إلى الرباط بالتاسع والعشرين من فبراير/ شباط. لكنّ الطائرة ظلَّت في الجو مع سوء الأحوال الجوية حتى لا يتم المخاطرة بحياة ثومة. وقف المنتظرون في المطار وهم يسمعون التأجيل تلو الآخر من الصوت المبحوح بمكبر الصوت، حتى وصلت الساعة إلى الخامسة إلا الربع صباحًا، فلم يجدوا إلا أبيات مرسي جميل عزيز من أغنية "فات الميعاد" ليغنوها معزّين أنفسهم، خاصة مع وجود أنباء عن تغيير مسار الطائرة لتهبط في مطار الدار البيضاء بدلًا من محلها الأساسي، وتنتقل أم كلثوم لمحل استضافتها في الرباط في تاكسي.

كانت أم كلثوم مؤسسة موسيقية تسير على الأرض. رسمت خطواتها باستراتيجية محكمة فلم تغني للشعراء المصريين والعرب الكبار فقط مثل أحمد رامي وإبراهيم ناجي وأبو فراس الحمداني، بل أيضًا انتقت من أشعار أسماء شابة حينها مثل جورج جرداق كاتب أغنية "هذه ليلتي"، والهادي آدم في "أغدًا القاك؟"، أو الشاعر الباكستاني محمد إقبال الذي غنت له "حديث الروح". بذلك استطاعت أن تجعل كل ناطق بالعربية في تلك الفترة على الأقل يلتفت لموسيقاها، وأن يأخذ منها انطباعًا، بحيث تصبح بشكل ما جزءًا من يومه. نضيف إلى كل ذلك حقيقة أنها لم تحيي حفلات في المغرب منذ بداية مسيرتها، ولذلك كان مسرح محمد الخامس جاهزًا لاستقبالها بدعوة من الملك الحسن الثاني بن محمد بنفسه، لتحيي ثلاث حفلات متتالية، في الرابع من مارس/ آذار، ثم في الثامن، ثم في الثاني عشر.

لعبت التفاصيل المادية الخاصة بـ "سنوات المجهود الحربي"، كما سمّاها الصحفي والكاتب كريم جمال، دورًا في نقلة تاريخية أخرى؛ فالأجر هو ستة وثلاثون ألف جنيه استرليني، سيُدفعون بالعملة الأجنبية لأنها العملة المستعملة في التبادلات التجارية الدولية، عكس المتعارف عليه في التعاملات المالية بين مصر والمغرب. لكن التلفزيون المغربي خفف من الموقف بشرائه لحقوق البث الحي للحفلة تلفزيونيًا، وقد دفع المواطنون المستخدمون للتلفزيون في تلك الفترة ضريبة التلفزيون المقررة بمنتهى الأريحية. اعتبرت المؤسسات الحكومية وبعض المؤسسات الخاصة يوم أول حفلة بمثابة عطلة عامة، ولا سبيل لك للحصول على التذاكر إلا من شباك التذاكر. لا ينسى الكثيرون مشهد السيدات وهن يقبلن على محلات تصفيف الشعر لحضور حفلة أم كلثوم في أبهى صورة. طالت الأساطير والإشاعات جميع تفاصيل الحفل، حتى القفطان المغربي الذي ظهرت به كوكب الشرق، حيث ادعى كثيرون أنهم أشرفوا على عملية صناعته، لكن أكثر الروايات صدقًا تقول أن من صنعته هي خديجة بنونة من عائلة بنونة بتطوان، والتي تربط عائلتها علاقة خاصة بأم كلثوم. كان لدى أم كلثوم ذلك الجهاز الاستشعاري الذي يقربها من المواقف القادرة على خلق علاقة مميزة بينها وبين الجمهور. وحين كان قضاؤها لعيد الأضحى خارج مصر من النوادر التي لم تتكرر تقريبًا، فقد حرص الملك الحسن أن يهديها كبشًا لتنحره معايشة لأجواء العيد، فرفضت أن تحصل عليه وأهدته لأسرة السيد عبد الفتاح الناصري، عامل فقير بالرباط.

كان الحفل الأول بمثابة كرنفال سُخرت له المغرب. أصبحت القناة المغربية والإذاعة المغربية لأول مرة، المصدر الذي تتلقى منه الدول العربية المجاورة إشارة "ثومة". استغلّت شركات محلية أهمها شركة ماركفون الحدث لبيع الإسطوانات الخاصة بالست بسعر مخفض. كما أحيى الحفل مع أم كلثوم عازف القانون عبده صالح، رغم مضاعفات إصابته بمرض القلب، وهو ما جعل الجمهور يتأثر بوجوده وعزفه. استهلت أم كلثوم الحفل بأداء "أمل حياتي"، ثم تبعتها بالأطلال التي غنّتها وهي تتلاعب مع الجمهور، فتشد على الصاد في "معصمي" لتتعالى صيحاتهم، ثم تشد على الميم في "كم" فتتعالى الصيحات مرة أخرى. في حفلة الثامن من مارس أطلق المنظمون ثلاثة حمامات في المسرح استقرت إحداها على المسرح مستمعة لأم كلثوم. أشارت العديد من الإحصاءات أن نصف من حضروا الحفلة الأولى حضروا الحفلة الثانية كذلك، وقد حضر الأمير عبد الله شقيق الملك الحسن الثاني الحفلة وطلب "الأطلال"، كما غنت "فات الميعاد" لتحيي ذكرى مفارقة الطائرة بمرح.

صنفت الصحافة المغربية حفلة الثاني عشر من مارس/ آذار بين الحفلات الأقوى في تاريخ المغرب. وفي الحقيقة، وقبل إحياء الحفل حتى، كانت الصحافة المحلية قد قدّمت له بزخم، حيث طرحت تساؤلات مثل تلك التي تطرح عن خطط وتكنيكات فرق كرة القدم في المباريات؛ هل ستغني أم كلثوم لزكريا أحمد كما غنت لعبد الوهاب والسنباطى وبليغ؟ أم تعود للسنباطيات القديمة؟ وقد وفّقت ثومة بين التوقعين، فأتت بـ "رباعيات الخيام" لعمر الخيام ورياض السنباطي، مدركةً محبة الجمهور المغربي للشعر الصوفي، ثم ختمت بـ "هو صحيح الهوى غلاب" لبيرم التونسي وألحان زكريا أحمد، مع تنويعات وتنغيمات موسيقية وفقرات صولو تألقت فيها الفرقة العازفة.

احتفلت وزارة الثقافة المصرية في فبراير/ شباط من هذا العام بمئوية أم كلثوم، وتحديدًا مرور مئة عام على حفلها الرسمي الأول، وإن كانت قد أحيت مناسبات وحفلات، وغنّت في مناسبات عامة منذ طفولتها. أما شهر مارس/ آذار الحالي فيصادف الذكرى الـ 56 على حفلها التاريخي الذي أحيته في العاصمة المغربية الرباط. مازالت ذكرى تلك الحفلات الأسطورية كفيلة بإقناعنا تمامًا أن ما صنع عظمة أم كلثوم هو أداؤها على المسرح، منذ طفولتها حين قدّمت الأغاني في احتفالات قريتها، وحتى بنت اسم "كوكب الشرق"، أداءٌ حمل دومًا في طياته الاحساس بالرهبة والعظمة، وطبقة صوت قوية لم تتكرر.

مصادر:

صحيفة الأهرام: أم كلثوم ملكة من مصر في باريس

زيارة أم كلثوم للمغرب

قصة 4  ليالي قضتها أم كلثوم في فرنسا

تسجيل حفل المغرب

+ اقرأ المزيد عن
أحدث المواضيع