لم ينسَ أحد بهاء سلطان رغم غيابه لتسع سنوات، تسلل صوته إلى أي بلايلست راقصة من اغاني الألفية، أو حتى إلى جلسة هادئة إلى جانب البحر، فقد تلوّن صوته بأساليب متعددة ليقدم أكثر من نوع. حملت تجربته الكثير من التغييرات على صعيد الأغنية المصرية، خاصة وأنه طبع بصمته في عالم البوب رغم غياباته المتكررة. نرصد في هذا المقال بدايات بهاء سلطان وكيف استطاع أن يحفر صوته في الذاكرة السمعية لجيل كامل، ونكتشف الأسباب التي جعلته نجمًا من نجوم الألفية، وتركت الجمهور بانتظاره دائمًا حتى بعد غيابه الطويل عن الساحة الفنيّة.
إنطلاقة قوية في سوق الكاسيت المصري
ظهر بهاء سلطان للمرة الأولى على التلفزيون في أول فيديو كليب سنة ١٩٩٩، كشفت "يا ترى" من ألبومه الأول ياللي ماشي عن طبقات صوته المرن وسلاسة أدائه. كتب الكلمات مصطفى كامل وهو المكتشف الأول لصوت بهاء سلطان، عندما كان لا يزال يغني في كورال حسام حسني، وعرّفه على المنتج نصر محروس صاحب شركة فري ميوزك، ثم اشترك بكتابة ست أغاني من أصل تسعة في ألبومه الأول أبرزها "احلف" و"يومين وعدوا".
كان نصر محروس وقتها بصدد البحث عن مواهب شبابية جديدة، يحتل فيها سوق الكاسيت ويستطيع من خلالها تقديم أسلوب جديد يقرّب الغناء الشعبي من موجة البوب الحديثة. ملأ بهاء في الكاسيت الأول هذا الفراغ، حيث قدم للجمهور أغاني شعبية ذات بعد طربي، وسيطرت ثيمات الغدر والحسرة على الكلمات ورافقت نبرة الحزن في أدائه المليئ بالشجن. على الرغم من أن لجنة تحكيم الإذاعة والتلفزيون صنفت أدائه بالشعبي كما صرّح في واحدة من مقابلاته، إلا أننا إذا نظرنا إلى حالة بهاء سلطان نجد أنه تخطى حدود هذا التصنيف بتقديم أنواع أخرى. كما أن إسهاماته بدمج الأسلوب الشعبي مع البوب المعاصر قد غيّرت شكل الأغنية المصرية، وفتحت باب التجريب لجيل من المغنيين والمغنيات بعده.
https://youtube.com/embed/HrcGwDdti7Q
هيتات بداية الألفية والنقلة إلى الفضائيات
عرفت شركة فري ميوزك عند بداية الألفية فترة ذهبية، بعد أن انضم تامر حسني وشيرين إلى الشركة إلى جانب بهاء سلطان، واستطاعت إصداراتهم أن تتصدر مبيعات سوق الكاسيت. كما وصل صوت بهاء سلطان سنة ٢٠٠٣ إلى ملايين المستمعين في العالم العربي، بعد أن سيطر كليب "قوم أوقف وانت بتكلمني" الغني بالمؤثرات البصرية الراقصة على شاشات الفضائيات، وتم بثه على قنوات الموسيقى مرة كل ساعة وأكثر. لحن تامر حسني الأغنية على مقام الصبا، ما أعطى مساحة واسعة ساعدت سلطان على توظيف عربه والتطريب، لم تكن هذه الأغنية محطة مفصلية في مسيرته فقط، بل كانت بصمة في عالم البوب العربي، خاصة وأنها جاءت امتداد لأغاني التسعينيات مثل "هات قلبك ده" لـ أحمد جوهر وبيني وبينك" لـ حكيم، حاملة نفس المقام مع تطور ملحوظ بشكل الكتابة والألحان. كما أنها بقيت حاضرة مثل أهزوجة شعبية عند مخاطبة أي شخص مغرور، واستخدمها الألتراس في مباريات كرة القدم للغناء للفريق الخصم.
https://youtube.com/embed/zAfkdH-nocw
تبدل أداء بهاء في ألبوم قوم واقف، خفف من ثيمات الحزن واللوعة واختفى اسم مصطفى كامل من التعاونات. قدم أغاني نابضة وراقصة ناسبت جوّ الفضائيات والألفية، مع ظهور أسماء جديدة، حيث افتتح تعاوناته الأولى مع الملحن محمد رحيم في "عاللي بيحصلي" من كلمات أحمد مرزوق، وقدم أول أغنية من كلمات نصر محروس في "إنسى".
اتبع نفس الفورمات في ألبومه الرابع كان زمان الصادر في ٢٠٠٦، احتلت "الواد قلبه بيوجعه" الفضائيات و اتبعت خطى قوم واوقف. رغم أن التركيبة اللحنية كانت أبطأ وهو أسلوب الملحن محمد رحيم، حيث أضفى لحن جذاب يتكرر بجمل لحنية من الكيبورد الذي يقترب من الأسلوب الشعبي. كما حملت كلمات أمير محروس ويحيى الموجي رمزيات من ثقافة الأغنية الشعبية "ما بلاش تلعب بالنار/ حاسب ده الهوى غدار". غيّر بهاء أسلوبه بالأزياء في هذا الكليب باختيارات جريئة عصرية، وتحسن أدائه أمام الكاميرا بعد أن ظهر عليه بعض التوتر في الفيديوهات السابقة. رغم أن كليباته عرفت نفس الشكل الراقص والحيوي وصورت في مواقع متشابهة، إلا أنها أسست لعصر جديد من الفيديو كليب بإخراج نصر محروس، فلم يتعامل سلطان مع مخرج ثانٍ في هذه الفترة.
بداية الخلافات مع شركة فري ميوزك والتوقف عن الغناء
بعد ألبوم "كان زمان"، بدأت خلافات بهاء سلطان مع نصر محروس تطفو على الواجهة إلى جانب مشاكله العائلية، ما تسبب بغيابه عن الإنتاج لمدة خمس سنوات، حتى أن شركة فري ميوزك عاشت في هذه الفترة مرحلة صعبة، بعد خسارة شيرين التي انتقلت إلى روتانا وتامر الذي بدأ مسيرته التمثيلية إلى جانب الغناء.
كل هذه العقبات أخرّت ألبوم بهاء الذي صدر في توقيت حرج وصعب بعد تأجيلات كثيرة سنة ٢٠١١، السنة التي حدثت فيها الثورة المصرية، واتجهت كل الأنظار إلى الأحداث السياسية. حمل تعاملات منوّعة مع ملحنين مثل عزيز الشافعي وعمرو مصطفى ومحمد رحيم، إلا أن عدد الشعراء انحسر إلى ثلاثة بعد أن كتب نصر محروس تسعة من أصل إحدى عشر أغنية. شكل هذا الألبوم قفزة نوعية جديدة في مسيرة بهاء، انتقل فيه إلى أداء الأغاني الرومانسية كاشفًا عن مزيد من الطبقات في خبايا صوته. قدم للمرة الأولى مشاهد تمثيلية في كليب "تعالى"، وأظهرت نضج صوته على صعيد التلوين ليندمج مع لحن عمرو مصطفى الشاعري. كتب أمير طعيمة أغنية واحدة في هذا الألبوم هي "أنا مصمم"، أخرجها بهاء بإحساس عالي بعد أن أعطاها رامي جمال لحن أثيري حالم.
لم تطول هذه المرحلة ولم تأخذ حقها، خاصة وأن شبح مشاكل مشاكل بهاء سلطان مع نصر محروس خيّم عليها، ما أدى إلى تفاقم الخلافات ووصولها إلى المحاكم. شهدت مسيرة بهاء توقف ثانٍ عن الغناء سنة ٢٠١٣، وهو بصدد التحضير لألبومه الجديد سيجارة حيث علق الألبوم في استديوهات التسجيل ولم يخرج منها لسنوات طويلة.
السعي لإنهاء الخلافات ووفاء الجمهور لصوت بهاء سلطان
ظهر بهاء سلطان بعد أربع سنوات من الخلاف في برنامج إسعاد يونس لأول مرة، وكشف عن تفاصيل كثيرة في حياته الفنيّة منها طريقة عمله مع نصر محروس، وكيف استأثر بكل القرارات المتعلقة بإنتاج ألبومه الأخير. كشفت هذه المقابلة عن شخصيته الخجولة والزاهدة حد الإسراف، وعن التأثيرات الموسيقية التي صنع منها صوته الخاص. حكى عن لقاءاته المتكررة مع الموسيقي عبده داغر الذي أهداه شريطًا للمنشد محمد عمران، وقدم ابتهال "بك نستعين من الوسواس" لنلاحظ كيف استلهم في تطويع طبقات صوته من أسلوب عمران، الذي عُرف باستخدام مناطق رنين الصوت المختلفة والانتقالات الصعبة والمفاجئة بين المقامات. كما تحدث عن تأثره بجورج وسوف وخاصة بشريط الهوا سلطان، وقدم "روحي يا نسمة" لنلاحظ أيضًا كيف استلهم السلطنة والتطريب من أسلوب الوسوف، خاصة باعتماده على جوابات عالية دون الضغط على حباله الصوتية.
خرجت هذه المقاطع الغنائية لبهاء سلطان من البرنامج وانتشرت على الانترنت وكأن الجمهور بانتظار صوته دائمًا، وقد حدث هذا مع أي تتر مسلسل شارك فيه أو حتى الإعلانات التي قدمها مثل ديو إنت استثنائي مع محمود عسيلي. كما خرج فيديو تجميعي لمجموعة كبيرة من الفنانين من أنغام إلى تامر حسني ومصطفى كامل، يشيدون بصوته سلطان ويطالبون بعودته إلى الساحة الفنيّة. لكن شيئًا لم يتغير بعد سنتين وبقيت الخلافات على الطاولة، عاد بهاء إلى ظهور جديد مع إسعاد يونس ليلة رأس السنة سنة ٢٠١٩، وناشدت المنتج نصر محروس مرة ثانية لحل الخلاف.
عودة الغائب الحاضر
بعد طول انتظار، استطاعت كل هذه الضغوطات والمساعي أن تصل إلى حل الخلاف، حيث عاد بهاء سلطان إلى الاستديو سنة ٢٠٢٢، ليتابع إنتاج ألبومه الأخير سيجارة مع نصر محروس وانتقل بعدها للعمل مع شركة روتانا. عاد صوته إلى الفضائيات ومنصات الاستماع وكأن شيئًا لم يكن، خاصة وأن مكانه بقي شاغرًا لم يستطع أحد أن يملأه كما صرّح الفنانين والموسيقيين المختصين في الفيديو التجميعي. تصدرت أغانيه مثل "بالراحة يا شيخة" مواقع التواصل، كما وصل تعاونه الجديد مع عزيز الشافعي في "تعالى أدلعك" إلى ملايين الاستماعات. أثبتت هذه الأرقام أن الجميع كان بانتظار عودته حتى الجيل الجديد الذي سمع عنه من جيل الألفية، فقد حضر إلى حفلاته وغنى معه أغانيه القديمة.
في الممرات الغامضة لصناعة الموسيقى، قد يحدث الكثير من المشاكل التي لا يعرفها الجمهور، قد يتوقف مطرب عن الغناء لأسباب قاسية، ويخسر الشيء الوحيد الذي يهمه ويعطيه سببًا للعيش والحياة. ربما كان ما خسره بهاء في هذه الملحمة الطويلة أكثر بكثير، فقد مرّ خلال هذه السنوات بالعديد من المشاكل العائلية بخسارة والده وأخيه، إلى جانب مشاكله مع شركة الإنتاج، حتى شعر الجمهور أنه لم يعد يدرك أهمية صوته وما قدمه فعلًا في مشهد البوب. تكشف تجربة بهاء سلطان عن خبايا عالم صناعة الموسيقى، وتحمل في طياتها الكثير من الانكسارات والانتصارات لمغنٍ لم يمتلك سوى حبال صوته، صوته الذي بقي راسخًا في المرحلة الانتقالية للبوب العربي من التسعينيات إلى الألفية، ما جعله دائمًا الحاضر الغائب.