مازالت مسيرة طلال مدّاح حتى يومنا هذا بحرًا عميقًا، يغوص به النقاد والباحثون في كل حين ليخرجوا بلآلىء مخبوءة مرتبطة بتجربته الفنية الفردية. كان طلال سبّاقًا في كل ما قدّمه، حريصًا على التجديد في حقب اتسمت بالكلاسيكية، وكان للعمل الفني الأولوية المطلقة بالنسبة له، سواء حمل توقيعه في الألحان، أم غنى خلاله ألحان موسيقيين آخرين، أو قدّم ألحانه لحناجر أخرى تؤديها، لتخلص مسيرته عبر أكثر من خمسة عقود كثيفة متصلة الإنتاج إلى عشرات الألبومات المسجلة، وأكثر من خمسمئة لحنًا وأغنية. بالتزامن مع ذكرى ميلاد صوت الأرض طلال مدّاح، نعرج على محطات مختلفة من مسيرته الكبيرة، نتخذها كمداخل لفهم قامته الفنية وما قدّمته عبر السنوات.
حمل راية التجديد من الأغنية الأولى
عرف طلال مداح بعذوبة صوته منذ أن كان طالبًا في المدرسة، درس العود سرًّا وتمرس في عزفه، وعرف منذ سن صغيرة أنه سيسلك طريق الفن أيًا كانت الأثمان أو الضغوط الاجتماعية التي سيواجهها. صدح صوته بأول أغنية رسمية له عبر إذاعة جدة في أواخر خمسينيات القرن الماضي وهو مازال مراهقًا مع أغنية "وردك يا زارع الورد". خرجت الأغنية عن الشكل التقليدي للأغنية الخليجية ذات اللحن الواحد، وقدّمت مقاطع لحنية وكوبليهات متنوعة الأوزان والقوافي، في تجديد غير مسبوق على الأغاني المذاعة حينها. انطلقت بعد ذلك مسيرة طلال رسميًا، ليصل إلى محطات لربّما لم يحلم الطفل الصغير طلال بوصولها، كأن يطلق عليه في يوم من الأيام قدوة طفولته الموسيقار محمد عبد الوهاب لقب زرياب العصر بعد لقائه في بيروت، ويشيد بصوته وموهبته.
بليغ يجرح وسراج عمر يداوي
بعد الشهرة الكبيرة التي حققها طلال مداح على مستوى السعودية والخليج العربي في الستينيات، كان سعيه حينها نحو مصر، قبلة الموسيقى والطرب في تلك الحقبة، لا ينقطع. حظي في العام 1973 بفرصة أن يكون الفنان الخليجي الأول الذي يؤدي ضمن الحفل العشرين لإذاعة صوت العرب في القاهرة، ليقترح عليه بليغ حمدي حينها أن يقدم له لحنًا جديدًا يغنيه، فانصاع طلال لاقتراحه. إلا أن تعديلات بليغ على اللحن بقيت مستمرة طوال مدة البروفات، فلم يحظ طلال بمتسع من الوقت للتنسيق مع الفرقة الموسيقية، مما تسبب بتعثر التواصل بين الطرفين مع حلول لحظة الأداء الحي.
ورغم احتفاء الجمهور المصري بهذا الأداء الأول، إلا أن تلك الحادثة كادت أن توصل طلال إلى الاعتزال وهو في ذروة تألّقه، قبل أن يشكّل طلال ثلاثية مع الشاعر محمد عبدالله الفيصل وألحان سراج عمر، ويعود في العام التالي في حفل مشترك مع العندليب عبدالحليم حافظ في نادي الترسانة في القاهرة، ليغني أمام 50 ألف متفرج، ويصدح برائعته "مقادير" للمرة الأولى.
منتج سينمائي وممثل أيضًا
خاض طلال تجربة التمثيل للمرة الأول عبر فيلم سينمائي حمل عنوان "شارع الضباب" في نهاية السبعينيات من إخراج سيد طنطاوي، وقام بإنتاجه بنفسه ليكون بذلك أول من يخوض تجربة الإنتاج السينمائي في تاريخ المملكة العربية السعودية. تم تصوير الفيلم في بيروت وضمَّ مشاركات لنجوم مثل صباح وعادل مراد وسميرة البارودي، خلال فترة كان اسم طلال يشهد فيها انتشارًا وشعبيةً أكبر في اوساط فنية مختلفة، وقد رأى أن هذه المشاركة ستشاعده على تقديم نفسه كفنان سعودي بشكل مختلف ومتجدد عن الصورة النمطية.
كما ظهر في بداية السبعينيات بدور ضمن مسلسل تلفزيوني بعنوان "الأصيل" إلى جانب لطفي زيني الذي كتب العمل وشارك بالتمثيل فيه.
في حب المغرب
لم تقتصر شعبية طلال مدّاح خارج شبه الجزيرة على الأوساط الفني في مصر ولبنان، بل وكانت رؤيته الفنية تتوسع باستمرار في تعاونات تتجاوز الحدود، وقد رأى في نفسه فنانًا عربيًا، فحظي بالجماهيرية التي توقّعها. فإلى جانب تقديم ألحانه للعديد من المواهب الشابة الخارجة من المغرب في حقبة الثمانينيات وبعدها، وإحيائه للعديد من الحفلات التي قدّمت أبرز أغانيه في مدن مغربية مختلفة، قدَّم طلال كذلك ألبومًا كاملًا حمل عنوان الأغنية الرئيسية فيه "مشتاق للمغرب". جاءت الأغنية من ألحانه وكلمات يسلم بن علي، لتلخص مشاعره تجاه البلد التي أحبها وقدّرها: "من لامني في حبهم مامعه ساس/ ربي خلق فيها من الناس اجناس/ في جنة الدنيا بها طيب الانفاس/ فيها الذهب الاصلي ومرجان والماس".
استمر صدور ألبوماته بعد وفاته
بعد حادثة وفاته على المسرح في مشهد هزَّ العالم العربي بعد أيام على عيد ميلاده الستين، وأثناء أدائه لأغنية "الله يرد خطاك" على مسرح المفتاحة في مدينة أبها، توالى لسنوات طويلة إطلاق ألبومات لطلال مدّاح ليكون من أكثر الفنانين الذين صدرت لهم ألبومات بعد رحيلهم. تضمنت هذه الألبومات أغاني غير صادرة رسميًا له خلال حياته، إلى جانب نسخ مختلفة من تسديلات صدرت سابقًا، ولم يُحصر بدقة عدد هذه الألبومات الصادرة بعد رحيله، إلا أن أبرزها كانت "منك يا هاجر" و"لا توحشونا" و"من يبشرني" و"الحب وإنت وأنا"، وجميعها صدرت عبر تسجيلات صوت الجزيرة، وهي شركة يملكها الفنان راشد الماجد ولها حقوق ملكية أرشيف الراحل طلال.