في الموسم الجديد من مسلسل Black Mirror، الذي طال انتظاره، تستمر السلسلة في تقديم رؤى مستقبلية سوداوية تتعلق بتأثير التكنولوجيا على الحياة اليشرية. وتبرز الموسيقى كعنصر أساسي، فلا يقتصر دورها على توظيف فني مرافِق للأحداث، بل تصبح محركًا رئيسيًا لفهم الذات والعلاقات الإنسانية في بعض الحلقات؛ حيث يتم استخدامها في سياقات درامية مستقبلية تُعيد تعريف دور الموسيقى في حياة البشر، وتطرح أسئلة فلسفية حول تأثيرها على بناء الذاكرة والهويات الفردية والجمعية.
سبق أن رسم Black Mirror في مواسم سابقة تصورات عن تطور صناعة الموسقى، في ظل تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي، كما حدث في حلقة "rachel jack and ashley too". جسدت فيها النجمة مايلي سايروس، دور نجمة البوب، آشلي، التي تموت سريريًا، مما أتاح استغلال صورتها وصوتها بشكل تجاري، وتكفلت التقنيات التكنولوجية المستقبلية بإنتاج أغانٍ جديدة لها بناءً على رغبات الجمهور، دون أي تدخل من الفنان. طرح ذلك تساؤلات حول استغلال الفن بعد وفاة الفنان وتحويله إلى منتج رقمي يخدم المصالح التجارية.
وإن كان الجزء الجديد لا يخصص أي حلقة لرسم تصورات عن تطور صناعة الموسيقى في المستقبل، لكنه يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في اثنتين من حلقاته، "Eulogy" و"Hotel Reverie". فما الذي تمثله الموسيقى في الجزء الجديد من Black Mirror؟
"Eulogy": الموسيقى كمحفز للذاكرة
في حلقة "Eulogy" يتم استخدام الموسيقى كأداة لاسترجاع الذكريات المفقودة، حيث يعاني بطل الحلقة، فيليب، من فقدان جزء من ذكرياته عن حبيبته السابقة كارول، التي توفيت مؤخرًا. ومع استخدام تقنيات حديثة، يتاح له الوصول إلى صورها القديمة وإعادة بناء ذاكرته بشكل رقمي، مما يتيح له استرجاع لحظات من علاقتهما.
مع ذلك، يواجه فيليب صعوبة في استعادة تفاصيل دقيقة، مثل ملامح وجه كارول. وفي لحظة مفصلية، يتمكن من تذكر شكل وجهها عبر قطعة موسيقية كانت قد ألفتها وعزفتها على آلة التشيللو، مما يقدم تصورًا مبتكرًا حول كيف يمكن للموسيقى أن تُعيد تشكيل الذاكرة وتحفز المشاعر.
قد تثير الحلقة تساؤلات حول إمكانية التكنولوجيا في المستقبل في إعادة رسم الذكريات واستخدام الموسيقى كأداة لاستعادة العواطف المفقودة، وبالوقت ذاته تثير أسئلة فلسفية حول دور الموسيقى في تشكيل وبناء الذاكرة الجمعية والفردية.
"Hotel Reverie": اختفاء الموسيقى مؤشر على انتهاء العالم
أما في حلقة "Hotel Reverie"، نجد أن الموسيقى تلعب دورًا مغايرًا، حيث يصبح اختفاؤها علامة على انهيار الواقع. تدور الحلقة حول الممثلة براندي فريداي، التي يتم استدعاؤها للمشاركة في تجربة تصوير محاكاة لنسخة معاصرة من فيلم سينمائي قديم يعود إلى الثلاثينيات.
في هذه المحاكاة، يتم استبدال الشخصية الأصلية في الفيلم بشخصية براندي، وتُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لدمج وعيها داخل العالم الافتراضي للفيلم. ولكن، تنحرف الأحداث عندما يتوقف النظام التكنولوجي فجأة بسبب خلل تقني، فتختفي الموسيقى ويتجمد العالم الافتراضي.
تمثل الموسيقى في هذه الفرضية العنصر الحيوي الذي يحفظ تماسك الواقع. ومتابعة هذه الحلقة تثير فينا تساؤلات حول مدى تأثير الموسيقى في بقاء أو انهيار الواقع المحيط بنا، وكيف يمكن أن يكون غيابها مؤشرًا على تفكك العالم من حولنا.
مسلسل خيال علمي بطروحات واقعية
مع بعض التأمل، نجد أن الأفكار الفلسفية التي يقدمها Black Mirror حول الموسيقى ليست مجرد تصورات مستقبلية، بل هي تساؤلات حاضرة في حياتنا اليوم؟ أليس دور الموسيقى في حياتنا الآن أكبر من أن نتجاهله؟ من منا لا تُشكل الموسيقى جزءًا من ذكرياته؟ وأليست فكرة اختفاء الموسيقى، سواء في المستقبل أو الحاضر، بمثابة تهديد حقيقي للإنسانية نفسها؟
مسلسل Black Mirror هو عمل من إنتاج منصة نيتفلكس. بدأ عرضه في عام 2011، وامتدَّ إلى 7 مواسم، انطلق عرض أحدثها في شهر أبريل الحالي. ينتمي المسلسل إلى نوع الخيال العلمي، ويتناول تأثير التكنولوجيا على حياتنا بطريقة سوداوية ومقلقة أحيانًا، وتتناول كل حلقة قصة مختلفة.