وُلد مارشال ماذرز في مدينة ديترويت، مدينة شديدة السأم، بلا أي شيء مثير، يبحث كل الحالمين فيها بدخول مجالات الترفيه عبر مدن المركز في الساحل الشرقي مثل نيويورك أو الغربي مثل لوس أنجلوس. مراهق من العرق الأبيض أراد في نهاية التسعينيات أن يقتحم مشهد موسيقى خرجت من مجتمعات الأفريقيين-الأمريكيين، فيما كانت موجة الهيب هوب في ذروتها والساحة مليئة بالصراعات ودماء توباك لم تجف بعد في الساحل الغربي، مع تألُّق جاي زي في الشرق ضمن مشهد مزدحم.
حيث كيف يمكن لهذا المراهق صناعة قصة صعود درامية من هذه المعطيات؟ خاصة أنه ليس عضوًا في جماعة ما ليموّل مشروعه الموسيقي، ولا يوجد من يقتنع به في الدوائر الصغيرة للصناعة الموسيقية كفتى أمريكي أبيض.
قرر حينها الرابر الذي اتخذ اسم إمينيم أن يفتتح مسيرته في الراب بمهمة انتحارية. اتخذ من نزالات الراب فرصة لكشف كل عيوبه ومناطق ضعفه لخصمه، فلا يترك له شيئًا ليتحدث عنه، فيفوز بسهولة وسط صمت من أمامه. حتى تلك اللحظة كان هناك فرق واضح ومتفق عليه بين الكوميديان والرابر. يلعب الرابر على مناطق قوة البيرسونا الخاصة به ويبرزها، وفي بعض الأحيان يضخّمها، ولذلك لديه دائمًا ما يخسره، ما يجعل البيف في بعض الأحيان نهاية حقيقية لبعض الرابرز، أو نهاية علاقتهم بمساحات معيّنة يشتبكون معها بتراكاتهم.
أما الكوميديان فعلى العكس، يمتصّ التروما ليحوّلها إلى نكتة، ومن منطلق قدرته على السخرية من نفسه سيكون قادرًا على خلق مواقف كوميدية حقيقية تعبّر عن سخطه من المجتمع والناس. لذلك التعامل مع رابر كوميديان كان أشبه بالدخول في معركة مع ملاكم ذي وجه ضاحك رغم أنه مغطى بالكدمات.
إلى جانب ذلك، كان هذا الرابر شديد المهارة فعلًا، سواء في قدرته على الاسترسال دون أن تفلت منه قافية واحدة، أو بذخيرته من الاستعارات المأخوذة من الواقع بسخرية، أو أدائه المسرحي بإضافة الانفعالات أو تغيير نبرة الصوت. بالإضافة إلى ذلك كان يملك قدرًا كبيرًا من السخط تجاه كل ما يحيطه، وهو لا يفرغ تلك الطاقة بل يحوّلها إلى وقود دائم طوال مسيرته، خاصة في بداية الألفينات الذهبية وحتى رحلة تعافيه من الإدمان.
ولعلّ أبلغ تعبير عن كونه رمزًا لهذا النقد الدائم الغاضب هو المشهد في أحدث تراكات إمينيم "Houdini"، الذي تخرج فيه شخصية سلِم شايدي القديمة من الممر الزمني العابر للسنين، وأول شيء يظهر عليه هو الاستياء ممّا يرى من مشاهد حوله. جاء تراك "Houdini" كالعيّنة الأولى من أحدث ألبومات إمينيم الذي سيصدر قريبًا بعنوان "The Death of Slim Shady"، ووصل إلى المرتبة الثانية على قائمة Billboard Hot 100، بعد أن أثار تعليق إمينيم عليه مع عنوان الألبوم تساؤلات حول احتمال أن يكون هذا الألبوم الأخير في مسيرة إمينيم، أم أنه الألبوم الأخير لشخصية سلِم شايدي.
The Slim Shady - 1999
قدَّم إمينيم شخصية سلِم شايدي لأول مرة بشكل واضح في ألبوم "The Slim Shady"، لتكون الشخصية التي ولدت للتنكيد على الجميع، فهو غاضب، مضخّم للمواقف وردود الأفعال، ولديه خيال قادر على تصور أكثر الصور الساخرة الغريبة وغير المريحة في الساحة حينها، حيث في مونولوج تمهيدي متمثل في تراك "My Name Is" أخرج دكتور دري هذا العفريت من القمقم.
ضمّ الألبوم نسخة فري ستايل من تراك "Bonnie And Clyde" الشهير لجاي زي وبيونسيه، وتراكات تعبّر عن إيجو مختلف مثل "Bad Meets Evil" و"Role Model". استطاع حينها سلِم شايدي والإيجو خاصته الذي كان في أوج التطوير، تحقيق بعض الإزعاج والضجة في ساحة الهيب هوب الأمريكية. في تراك "The Real Slim Shady" قلّل إمينيم مساحة فردانيته وفردانية سلِم شايدي، فهو متمثل في كل شخص ساخط على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للطبقة العاملة الأمريكية، غير عابئ بدراما المشاهير وقصصهم والنميمة المحاطة بهم، أو باختيارات هيئة جوائز الجرامي التي تظن أنها تشكل الذوق العام الموسيقي.
The Marshall Mathers LP - 2000
هناك اختلاف مستمر لليوم عمّا إذا كان ألبوم إمينيم الأيقوني في مرحلة مبكرة هو "The Marshall Mathers LP" أم "The Eminem Show". جاء الأول أكثر ذاتية، بينما كان الثاني أكثر نضجًا ودراية بقضايا المجتمع المحيط.
نتتبّع في هذا الألبوم بوضوح أكبر ما ميّز سلِم شايدي، وهو أنه قادر على قول ما يقوله العامة من طبقته في سرّهم ويخجلون من التعبير عنه في العلن، فهو النموذج الذي يكرهه الجميع لأنهم يشعرون بالعجز أمام قدرته عن التعبير عن نفسه. ضبط تراك "Stan" ذلك، حيث يضع فيه إمينيم بالمشاركة مع دايدو سيناريو موازيًا لو لم ينجح، لكنه وضعه لمهووس بموسيقاه، وكأنه تخيل لو أن هوسه انحصر بالهيب هوب ونجومه الغارقين في فردانيتهم وبيرسوناتهم التي يتعلق بها الجمهور لما تطور إلى مسيرة موسيقية.
شهدت تلك الفترة أيضًا العديد من الاتهامات التي طالت موسيقاه، والتي انتقل إلى الدفاع عنها بين الأسلوب الجاد للغاية في تراك "The Way I Am" الذي دافع فيه عن حريته في التعبير عن رأيه كما هو، وبين تكراره بسخرية وجوب عدم الخلط بين الخيال والواقع في تراك "Criminal"، والذي تخلّله سكتش كوميدي له هو ودكتور دري وهما يخططان لسطو مسلح.
The Eminem Show - 2002
بينما كان "The Marshall Mathers LP" ألبوم راب ذاتيًا، تبدو تجربة "The Eminem Show" أكثر نضجًا، أكثر احتكاكًا بالصناعة، أكثر قدرة على خلق علاقة بين الذاتي والمجتمعي، وأقل غضبًا وأكثر سخرية.
أدرك سلِم أهميته للصناعة وقبوله ووجود طلب على شخصيته الجدلية. خلق ذلك له في "Without Me" مساحة لصور أكثر تركيبًا، يستدعي فيها أسماء لشخصيات سياسية عالية المستوى. وفي "White America" يضع نفسه في موقعه العرقي الاقتصادي، فيتحدث عن معاناة التهميش كأغلبية لا يأبه لها السياسيون الذين يعطيهم أفرادها أصواتهم.
لم ينتهِ الألبوم دون أن يلقي إمينيم نظرة على العلاقات السامة مع والديه، والإيذاء الذي تعرض له من أمّه بالتحديد. كما يستدعي في "Sing For the Moment" على لحن "Dream On" لفرقة الروك آيرو سميث، تحولاته ومحطاته في الصناعة الموسيقية، ويعدّ ذلك من الاستعارات الأبرز حينها لفرقة روك.
ظهرت أيضًا ابنته هايلي في الإطار كمؤثر في طريقته بالكتابة وكموضوع يفرض عليه مسؤوليات جديدة ويفتح له آفاق جديدة للتفكير بها كرجل عائلة. سمعنا ذلك في "My Dad's Gone Crazy" و"Hailie's Song" في هذا المشروع، أو بالتكملة في ألبوم "Encore" عام 2004 في تراكات "Toy Soldiers" و"Evil Deeds" و"Mockingbird".
Recovery - 2010
مع تعافي إمينيم من الإدمان عام 2008، ربما ودّعنا مؤقتًا الجانب الساخر الصاخب لسلِم شايدي، ولو أن تعريفه لتلك البيرسونا هو أنها المعبّرة عن الإيجو، فقد حضر سلِم في ألبومَي "Relapse" عام 2009 و"Recovery" عام 2010 لكن بشكل شاعري.
تحضر العديد من الهيتات التي تتعمق في الإخلاص للهيب هوب كجنرا على غرار "Till I Collapse"، لعلّ أعمقها كان تراك "Not Afraid" الذي يواجه نفسه فيه بالسقوط وضياع بضع سنوات من مسيرته بسبب الإدمان. يصف ذلك الندم بقوله: "قلت أنك الملك لكنك كذبت"، بينما يقف في الفيديو كليب على طرف مبنى بين الهاوية والصمود.
ما من خطابات موسيقية تتحدث عن التعافي من إدمان حصلت على هذا القدر من الاهتمام كما فعل هذا التراك، والمليار وثمانمئة مليون مشاهدة على يوتيوب هي خير مثال على ذلك. شهد الألبوم أيضًا انفتاحًا على جنرا البوب من حيث التعاونات مع جود بينك وريانا، كما شهد تعاونًا مع ليل واين في "No Love".
The Marshall Mathers LP 2 - 2013
بعد هدنة التعافي عاد مارشال العنيف مع لمحات من سلِم، فبينما أتى تراكا "Bad Guy" و"Survival" كصفارة إنذار لاستعدادية إمينيم للاشتباك مع أي تحدٍّ قادم، جاء تراكا "Berzerk" و"Rap God" كنسخة استعراضية من التلاعب بالكلام لم تحضر منذ ألبوم "The Eminem Show"، كما استعاد وجوده البصري بفيديو كليبَين بارزين في مسيرته.
في "Berzerk" تعاون مع المنتج العملاق ريك روبين، والذي قام بسمبَلة كلًا من أغنيتَي "The Stroke" لبيلي سكوير و"Fight for Your Right" لبيستي بويز، كما دعا كندريك لامار للظهور في الفيديو كليب حيث يقوم كندريك بدفعه كنوع من أنواع رمزية المزاحمة في المجال الموسيقي. في "Rap God" قدّم استعراضًا بأداء 1560 كلمة في ست دقائق شملت كل أنواع السخرية الممكنة، ليقدم نسخة أنضج وأكثر هدوئًا من سلِم لكنه لا يزال سلِم شايدي.
Music to Be Murdered By - 2020
ربما ظهرت في هذا الألبوم نسخة متداعية بعض الشيء من سلِم شايدي ومارشال، فعدا الاستعانة بهوية المخرج ألفريد هيتشكوك كمخرج شهير لجنرا التشويق والرعب، لم يكن هناك الكثير من التجديد. وإن كانت المواضيع قد حملت حيوية لغوية وأساليب أداء أصيلة، مسلطًا الضوء على أحداث العنف المسلح والعلاقات السامة، ووجوده في الصناعة كعَلَم من أعلامها، ومواضيع متفرقة لا يربطها سياق قوي مثل بقية الألبومات، لكن لا يزال الإيجو حاضرًا بقوة كعادته.
ظهر بين التعليقات على يوتيوب على أحد التراكات الأحدث، ردًا على بار يتحدث فيه إمينيم عن أنه لا يزال الرابر الذي يحذّر منه الوالدان، أن جمهور إمينيم من الأبناء أصبحوا هم الآباء الآن، فـ إمينيم نفسه احتفل في السنوات الماضية بزفاف ابنته هايلي التي كان يغني لها وهي طفلة في تراك "Mockingbird".
بأخذ هذا الأمر بالاعتبار، لربما شكّل ذلك دافعًا لإمينيم لينهي شخصية سلِم شايدي في "The Death of Slim Shady"، فيعكس فيه كل محصلة تلك الرحلة التي امتدت لربع قرن، بكل ما مرَّ به من تطورات وتغيرات بالأفكار والتوجهات ومكانة في مجال الهيب هوب
