حقبة التسعينيات كانت بمثابة العصر الذهبي للموسيقى العربية، حيث شهدت انتشار الأغاني والفيديو كليبات التي امتزجت بروح التجديد لتشكل ملامح الأغنية العربية الحديثة. من بين الأسماء التي تركت بصمة واضحة خلال تلك الفترة وما زالت تحافظ على شهرتها حتى اليوم، الفنان ذو الصوت القوي عاصي الحلاني. في مراجعتنا الكلاسيكية لهذا الأسبوع، نستعرض أحد أبرز ألبوماته "وآني مارق مريت" الذي صدر عام 1994، والذي يُعد محطة مميزة في مسيرته الفنية.
موهبة عاصي الحلاني الكبيرة في سن صغير
برزت موهبة عاصي الحلاني الغنائية منذ نعومة أظفاره، حيث كان شغوفًا بالموسيقى وعاشقًا للغناء، مستغلًا كل فرصة لإظهار قدراته الفنية. وفي بداية رحلته نحو تحقيق حلم النجومية، بدأ بتعلم العزف على العود أثناء دراسته، وكان شغفه بالموسيقى يدفعه أحيانًا إلى التهرب من الدراسة لتكريس المزيد من الوقت لتعلم العزف.
عندما لاحظ والده هذا الولع الكبير بالموسيقى، قام بشراء عود له، دعمًا لشغفه وتشجيعًا لموهبته. ومع دخوله مرحلة المراهقة، وجد عاصي نفسه يواجه تحديات مالية كبيرة، خصوصا مع رغبته في تسجيل أولى أغنياته.
لم يكن طريقه مفروشا بالورود، فقد عمل عاصي في مهن مختلفة لتأمين المال اللازم لتحقيق حلمه، بدءًا من مساعد لحلواني إلى نجار. وفي عمر الخامسة عشرة تمكن من تسجيل أول أغنياته بماله الخاص، لكنها لم تحقق النجاح الذي كان يتطلع إليه.
الفرصة الحقيقية جاءت عندما شارك في برنامج استديو الفن. ورغم توقفه لعدة سنوات بسبب الحرب الأهلية، تمكن عاصي من المشاركة في البرنامج، حيث أظهر موهبة استثنائية و اكتسب شهرة واسعة كما حصل على الجائزة الفضية عن فئة الأغنية الفلكلورية، ليكون ذلك بداية انطلاقته نحو النجومية.
نقطة فارقة في مسيرة عاصي الحلاني الفنية
استثمر عاصي الحلاني الشهرة التي حققها من مشاركته في استديو الفن بإصدار عدة ألبومات في أوائل التسعينيات، إلا أن ألبوم "واني مارق مريت" يُعد نقطة تحول محورية في مسيرته الفنية. هذا الألبوم أكسبه شهرة واسعة تجاوزت حدود لبنان، حيث لفت الأنظار بفضل صوته الجبلي القوي وأسلوبه المميز.
تضمن الألبوم ست أغنيات، أبرزها الأغنية الرئيسية "واني مارق مريت" وقد جاءت باللهجة البدوية التي ناسبت خامة صوت عاصي، وطبعت صوته في العديد من هيتات مسيرته لاحقًا. تناولت الأغنية مشاعر الحنين والاشتياق إلى الماضي حيث رسمت صورًا جمالية مؤثرة، تبدأ بوصف مروره بجانب بيت الأحباب واسترجاعه ذكرياته معهم، مع تعبيره عن ألم الفراق وصعوبة النسيان. كتب كلمات الأغنية الشاعر نزار فرنسيس بأسلوب درامي عاطفي، ولحنها الموسيقار سمير صفير ببراعة فائقة، مستخدما لحنًا سلسًا ولكنه يتماشى مع حالة الحزن والألم التي يشعر بها. أما أداء عاصي فكان العنصر الأبرز في الأغنية حيث أظهر إحساسًا عميقًا بكلمات الأغنية، الأمر الذي لمس قلوب الكثيرين في الوطن العربي وساهم في انتشارها.
جانب مختلف من عاصي في الألبوم
صدر الألبوم في وقت حساس مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت حوالي 15 عامًا. وعاصي الذي عاش طفولته وسط تلك الظروف القاسية، وجد في الألبوم فرصة للتعبير عن فرحته بانقشاع هذه الغمة التي حرمت الكثيرين بمن فيهم هو، من أبسط تفاصيل الحياة الطبيعية.
ضم الألبوم أغنية "هلّ المجد بديرتنا" التي كتب كلماتها بنفسه، ولحنها جورج عطية. حملت الأغنية طابعًا احتفاليًا بامتياز، حيث تبدأ بأصوات الزغاريد والطبول مما يعكس أجواء الفرح والترحيب التي عمت لبنان مع عودة الحياة إلى طبيعتها وعودة السياح بعد فترة عصيبة.
تميزت الأغنية بمزيج من الحماس والدعوات الصادقة، حيث تمنى عاصي الخير والرخاء لوطنه: "يارب تحمي دارنا وتزينها بأبطالنا" ليعكس هذا المقطع روح الأمل والطموح لبناء مستقبل أفضل للبنان.
التراث والموال يجتمعان في صوت عاصي الحلاني
صرح عاصي الحلاني مرارًا بتأثره الكبير منذ صغره بالفنان وديع الصافي وبالأغاني التراثية والفلكلورية بشكل عام، وهو ما انعكس بوضوح في العديد من أعماله ولا سيما في هذا الألبوم. فقد كان هذا التأثر حاضرًا من خلال إعادة إحيائه لأغنية "لو أدري" والتي قدمها سابقًا أكثر من فنان منهم فاضل عواد.
قُدمت الاغنية برؤية جديدة حيث أُضيف عليها توزيع عصري مما منحها طابع جديد يدمج بين الأصالة والتجديد. كما استخدم الموزع أنطوان الشعك الإيقاعات الشرقية التي تخللتها بعض الوتريات بشكل مبتكر، مضيفًا لمسة راقصة تتناسب مع أجواء التسعينيات. ورغم أن موضوع الأغنية الأساسي يدور حول مشاعر الحزن الناتجة عن الهجر والفراق، إلا أن الإيقاعات الراقصة والتوزيع المبهج أضاف لها بُعدًا آخر.
أما أغنية "لو مرة زعلتيني" التي كتب كلماتها فارس شلهوب ولحّنها سمير صفير، فقد تميزت بأسلوبها الذي يجمع بين العتاب والغزل. اختار عاصي الحلاني أن يفتتحها بموال أظهر جماليات صوته الجبلي وقوته، مما أعطى الأغنية طابعًا جذابًا. وفي كلماتها يخيف المحب محبوبته من إثارة غيرته ويحذرها من أن تزعله، مشيرًا إلى أن الأمر قد يستغرق وقتًا طويلًا يصل إلى عام حتى تصالحه ويرضى عنها. تكرار الكورال وراءه لهذا المقطع بدا كتأكيد حازم على التحذير. ورغم طبيعة الأغنية التحذيرية، إلا أنها لم تخلو من الغزل في وصف صفات محبوبته، ما أضاف لها بُعدا عاطفيًا متوازنًا بين الشدة والحنان.
على الصعيد الموسيقي تألقت الأغنية باستخدام الوتريات مع الأكورديون في الفواصل الموسيقية، مما أضفى نكهة مميزة على اللحن. اختلطت هذه العناصر بأصوات صيحات الكورال الجبلية، التي أعطت الأغنية طابعًا لبنانيًا أصيلًا.
أما عاصي فقد بدا مرتاحًا وواثقًا في أدائه للأغنية، حيث أبدع في تقديم هذا اللون منذ صغره، ففي هذه الأغنية وسواها من الألبوم امتداد لأسلوب الجيل الذي سبقه من عمالقة الفن، لكنها حملت في الوقت ذاته لمسات عصرية تناسب ذائقة جمهور التسعينيات، وكأنه يربط الماضي بالحاضر بأسلوب يجدد التراث، ليصنع منه مستقبله لسنوات لاحقة.