ليس خفيًا على أحد أن ما مرّت به إليسا في رحلة إصدار ألبومها الجديد "أنا سكتين" كان صعبًا للغاية، من مناوشات مع جهات الإنتاج، وخلافات وصلت للقضاء حول ملكية قناتها على يوتيوب. إلا أن الألبوم الذي حددت موعد إصداره أكثر من مرة، وتخلفت عن المواعيد المحددة لطرحه بكل مرة، صدر أخيرًا وبشكل مفاجئ قبل أيام، لتعلن شركة روتانا عن توفّره للاستماع على منصات سبوتفاي وأنغامي.
بصدور الألبوم، أعلنت إليسا عن انتصارها على كل العوائق التي وقفت في وجهها بنشر صورة غلاف الألبوم على انستغرام، وإرفاقها بكلمات احتفالية: "لقد كان هذا الألبوم بمثابة عمل حب، تغلّب على تحديات لا حصر لها واجهته على طول الطريق قبل إصداره. كل ما أتمناه أن أشارككم فرحتي بالألبوم لنحتفل معًا". كانت قد صدرت أولى عينات الألبوم "أنا بتمايل على البيت"، قبل عام كامل، وأتبعتها بأغنيتين منفردتين منه، "العقد" و"كله وهم".
يعتبر ألبوم "أنا سكتين" الأول لإليسا منذ حوالي أربع سنوات، حيث كان آخر ألبوماتها "صاحبة رأي" الذي صدر سنة 2020. ويتكون الألبوم الجديد من 12 أغنية، ثلاثة منها باللهجة الشامية، تعاونت فيها مع مروان خوري في الكلمات والألحان، لتعود الشراكة الفنية بين الثنائي بعد سنوات من الانقطاع. بينما جاءت الأغاني التسعة المُتبقية باللهجة المصرية، تعاونت فيها إليسا مع العديد من الكُتّاب والملحنين والموزعين، بمن فيهم عزيز الشافعي ومحمد رحيم وتامر عاشور ونادر عبد الله ومحمد يحيى وأحمد إبراهيم وأيمن بهجت قمر وجلال الحمداوي وآخرين.
رغم أن وجه إليسا لا يظهر في صورة غلاف الألبوم، وتبدو إليسا بفستانها الداكن متماهية مع الخلفية البيضاء بتفاصيلها غير الواقعية وممسوحة المعالم الفردية، إلا أن ألبوم إليسا الجديد هو أكثر ألبوماتها تركيزًا على ذاتها، ويبدو امتدادًا للسيرة الذاتية التي صاغتها عن نفسها في المسلسل الوثائقي "It’s Ok"، الذي عُرض على نتفلكس بداية العام. من الجذير بالذكر هنا هو أن كلمة "أنا" هي الأكثر تكرارًا عبر الألبوم، حيث ترد فيه 76 مرة، دون احتساب الضمائر الذاتية المتصلة والمضمرة.
الموضوعات الذاتية ليست شائعة في أغاني البوب العربي، التي عادةً ما تركّز كلماتها على التعبير عن مشاعر العشاق في العلاقات العاطفية، الناجحة منها أو الفاشلة، والتي نادرًا ما تُحاول أن تقترن بإطار اجتماعي أو قضية أو تجربة ذاتية. لذا فإن جزءًا من تجربة إليسا الغنائية يُعتبر ثوريًا، فهي السبّاقة في أغاني عبر مسيرتها تصفها وتصف تجاربها ومشاعرها وشخصيتها بهذا التركيز.
ليس لجميع الأغاني الذاتية هذه سياق أو إطار واحد يجمعها، أو تبرير للرغبة بالبوح أو الكشف عن التفاصيل الذاتية، بل تقول فيها إليسا ما تقوله فقط لأنها ترغب بوضع إطار يوثق ذاتها في هذه المرحلة، سواء لنفسها أو لجمهورها. نسمع ذلك في الأغنية الرئيسية التي يحمل الألبوم اسمها، "أنا سكتين"، التي كتب كلماتها نادر عبد الله ولحّنها تامر عاشور ووزعها أحمد إبراهيم، ويرد بها: "تسمحلي أقدّم نفسي ليك من غير زواق/ من غير غموض من غير مبالغة وإدعاء/ أنا ممكن أبقى فرحة على صورة لقاء/ أو صدمة مش محتمله على صورة فراق/ ده مش انفصام شخصية دي مزايا وعيوب/ فياريت تشوفني صح وأنا قدام عينيك/ لو ناوي خير هدخل علشان خاطرك حروب/ مش ناوي يبقى طبيعي هتمرد عليك/ أنا باختصار وفي كلمتين/ أنا سكتين/ حلم وكابوس/ ضحك ودموع/ جنة و جحيم".
سبق وأن طرحت إليسا أغاني ذاتية فيما مضى، إذ خصصت الأغنية الرئيسية في الألبوم الماضي، "صاحبة رأي"، لوصف نفسها، ورسم صورة بورتريه ذاتية. لكن حضور هذا النوع من الأغاني لم يكن كثيفًا في أي من ألبومات إليسا السابقة كما هو الحال في "أنا سكتين"؛ فتظهر فيه ثلاث أغانٍ ذاتية بامتياز "أنا سكتين" و"من أول السطر" و"خوليو وفيروز"، تصف بها إليسا نفسها وتحكي عن ميزاتها وعيوبها واهتماماتها، بما في ذلك ذوقها بالموسيقى، بالإضافة إلى مرور بعض العبارات العابرة في العديد من الأغاني الأخرى للتعبير عن الذات أيضًا، وإن كانت هذه العبارات فيها مؤطرة بالثيمة العاطفية.
يبدو الكثير مما تقوله إليسا عن نفسها في هذا الألبوم، شبيهًا بما عرفناه عنها في السابق، عبر الأفكار العامة التي تحملها الكلمات. نلتقط العديد من النقاط المشتركة مثلًا بين "أنا سكتين"، وبين "متفائلة" التي أصدرتها إليسا سنة 2012 ضمن ألبوم "أسعد واحدة". في الأغنيتين تصف إليسا نفسها بتناقضاتها؛ وتحرص على شرح تقلباتها للآخر في سياق لعبة المكاشفة في بداية التعارف. لكن المختلف ما بين جديد إليسا وقديمها، أن جرعة الدراما تزداد ونبرة الحزن تطغى، ليختفي التفاؤل وينحسر الفرح في الأغنية الجديدة.
تتضاعف جرعة الدراما في الأغنية الذاتية الثانية، "من أول السطر"، والتي تبدو أيضًا أغنية دعم أو مؤازرة ذاتية في مواجهة الحرب التي واجهتها إليسا في سبيل صناعة الألبوم: "تعبي وشقايا وسنين سهر/ مش هتمحي بجرة قلم ولا أعيشها مهزومة". وفي هذه الأغنية التي كتبها أسامة مصطفى ولحّنها سامر أبو طالب ووزعها جلال الحمداوي، تصف إليسا ذاتها كامرأة قوية لا تنكسر وإن كان "دمعنا أوقات بيخونا"، وتؤطر إليسا بعض الصفات وتوليها أهمية خاصة: "خدوا عني معلومة/ كل ما بيزيد الوجع بيزيد إصراري". لكن الغريب أن هذه الكلمات التي تُعبر عن شخصيتها الفولاذية والإصرار على مواصلة الرحلة تُغنيها إليسا بصوت مُنكسر وتُرافقها موسيقى بكائية.
الاستثناء الوحيد بين الأغاني الذاتية في الألبوم، والذي تتخلى فيه إليسا نسبيًا عن أسلوبها الدرامي بالتوصيف الذاتي هي أغنية "خوليو وفيروز"، التي كتبها ولحّنها ووزعها محمد رحيم، وفيها تسرد إليسا الكثير من التفاصيل المُثيرة حول شخصيتها، لتُشير إلى ذوقها بالموسيقى والقراءة، وتُغني عن الطفلة بداخلها وآليات استعادة التوازن والفرح. لكنها تختتم الأغنية بالدراما والدموع التي تعتبرها جزءًا من شخصيتها: "وأقرب دمعة في الدنيا هي دمعة عنيا".
الطابع الدرامي يسود على معظم أغاني الألبوم المُتبقية، ابتداءً من "بتمايل على البيت"، التي تُغني فيها إليسا بصوت عاطفي حزين لا ينسجم مع البيت الراقص لتُعبّر عن حالة الحزن والوحدة التي تعيشها في وسط الجموع والاحتفالات. تتوافق أيضًا نبرة الحزن في صوت إليسا مع كلمات العديد من الأغاني، مثل "كلو وهم" و"العقد" و"شو كان بيمنعك"، فيما يبدو أداء إليسا الحزين مُناقضًا للكلمات في البعض الآخر، مثل "فرحانة معاك" و"حلالي". لكن ملامح الحزن تخفت نسبيًا فيما تبقى من أغاني مثل "النظرة الأولى" و"نظرات" و"حظي ضحكلي".
ورغم جرعة الدراما العالية التي تبُثها ملكة الإحساس بصوتها عبر أغاني الألبوم، إلا أن الاستماع للألبوم بالمقابل لا يقود إلى الكآبة فعليًا؛ إذ تعتمد التوزيعات الموسيقية على بيتات سريعة تخلق توازنًا في الألبوم، وتجعله يمُر بخفة، ونحن نتلقى كمية المشاعر الهائلة التي تصلنا مع الصوت والأداء. تنجح إليسا كل مرة في جعلنا نشعر بالتعاطف والإعجاب بشخصيتها أكثر، كلما تعرفنا على جانب جديد فيها، وتجعلنا نُعايش مشاعر الفرح والحزن كلما تغنّت بالحب أو غنّت عن عذاباته.