نعيد نشر هذا المقال وغيره ضمن ملف "50 عامًا على رحيل كوكب الشرق" بعد أن ظهر المقال الأصلي للمرة الأولى عبر موقع مجلة "المجلة" الزميلة ضمن المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام لكاتبه شادي علاء الدين.
_____________________________________________________________________
منذ رحيلها قبل نصف قرن، ظلت أم كلثوم تعبر إلينا بوصفها مرجعية تناقش وتعارض وتستعاد وتنشئ تفاهمات وتعارضات وتمثلات لها في مجالات عديدة ومختلفة ومتباينة من السينما والتلفزيون مرورا بالفن التشكيلي والـ"بوب آرت" والموسيقى الإلكترونية وصولا إلى الحركات النسوية والشبابية.
لعل أم كلثوم هي الوحيدة بين مطربي ومطربات العالم العربي التي امتلكت صوتها بالكامل بكل معارفه وتجاربه وإمكاناته وخصوصياته التقافية التي شملت تجارب أجيال وأنماط أداء وخبرات عريضة تمتد من موسيقى القرن التاسع عشر والأدوار والموشحات وتلاوة القرآن وتجويده إلى تجارب حديثة وراقصة استوعبت مزاج الجاز والروك.
اختراق العالم الذكوري
في مشهد بات كلاسيكيا في استعراض سيرة أم كلثوم تتراءى لنا صورتها طفلة ترتدي زي الصبيان وتغني التواشيح والأناشيد الدينية وسط حلقة مكونة غالبا من مستمعين ذكور.
تيسرت لتلك الطفلة عناصر لم يكن من السهل توفرها في عالم مطلع القرن العشرين، إذا ما اعتمدنا تاريخ ولادتها الأقرب إلى الدقة في 31 ديسمبر/ كانون الأول 1898، وقد منحها ذلك التعليم المنضبط والصارم للقرآن وطرق التجويد ما يُجمع المؤرخون على أنه شكل الخصوصية البارزة التي لازمتها طوال حياتها المتسمة بالجنوح إلى الجدية المفرطة في التعامل مع الغناء، وأضيف إلى ذلك تعلمها الأناشيد والمدائح الدينية التي كانت تستند الى تعاليم صارمة ومتطلبة لأداء يحرص على ملاحقة الموضوع وقدسيته بنمط أداء يستدعي في بنائه وتركيبه الجلال والاحترام.
اجتهدت أم كلثوم في بناء مسيرتها الفنية وإدارتها بعناد كبير وإصرار على الدفع بصوتها إلى الصدارة الدائمة منذ عام 1924 حين بدأت تسجيل أغانيها مع شركة "غرامفون" التي تؤكد المصادر التاريخية أنها احتضنت أول تسجيلاتها لقصيدة "الصب تفضحه عيونه" من كلمات أحمد رامي وألحان الشيخ أبو العلا محمد.
دخلت بهذا التسجيل عالم الأسطوانات الذي ساهم في شيوع صوتها وفي إعادة وصل دائرة مستمعيها، ويروى أن من أسباب نجاح أسطواناتها تجاريا، فضلا عن حرصها على التسويق ومهارتها في إدارة مسائل العقود مع الشركات، أنها دخلت إلى هذا العالم متسلحة بجمهور يعرف صوتها يتشكل من جماهير الحفلات التي كانت تقيمها في قريتها ومحيطها، إضافة الى الجمهور القاهري المؤلف من وجهاء الأرياف المنتقلين إلى القاهرة مثل آل عبد الرازق، لذا كان صوتها مألوفا وكان الجمهور مستعدا لاستقباله والتفاهم مع التجارب المختلفة التي يتبناها.
لاحقا، تعاقدت أم كلثوم مع شركة "كايروفون"، وسجلت العديد من الأغاني الناجحة، وأبرزها أغنية "إن كنت أسامح"، التي حققت مبيعات ضخمة بين عامي 1925 و1927، وبعد حساب العوائد تبين لها وجود هوة كبيرة بين ما تحققه الشركة وما تتقاضاه، فأنهت تعاقدها مع الشركة.
انتقلت بعدئذ إلى شركة "كولومبيا"، في خطوة كان لها الأثر الكبير على أجرها وانتشارها، لكنها اكتشفت خلال إحدى زياراتها لمكاتب الشركة أن مطربة لا تحظى بشهرة توازي شهرتها تحصل على أجر أعلى من أجرها، مما دفعها الى كسر تعاقدها مع الشركة والبحث عن عقد أفضل، فكان أن التقت مدير شركة "أوديون" مسيو باروج الذي قدم لها عرضا يفوق كل ما كانت حصلت عليه من باقي الشركات.
أثّر تعامل أم كلثوم مع شركات الأسطوانات في التعامل مع أهل الغناء في زمانها وأسس لمنطق مختلف انعكس إيجابا على حقوقهم وعقودهم، فقد شكلت وعيا حادا بقيمة ما يقدمونه وبقيمتهم الذاتية والفنية انطلاقا مما كانت تعطي صوتها من أهمية.
وتعكس معركة رئاسة نقابة الموسيقيين التي خاضتها "الست" عام 1945 كيف اجتهدت في اجتراح موقع جديد لنفسها بوصفها حاملا لصوت المرأة، إذ أن النقابي خليل المصري مدير شركة "أوديون" للأسطوانات رفض توليها المنصب قائلا وفق ما تورده فرجينيا دانيلسون في كتابها "صوت مصر" إنه "طالما ضمت النقابة رجالا فينبغي أن يتولوا قيادتها". فكان رد أم كلثوم عليه "أنا أيضا قادرة على تولي قيادة النقابة... أنا أيضا لديّ أفكار وحلول للمشكلات". فاعترض قائلا: "لكن الرجال قوامون على النساء"، لتواجهه بتأكيد أن "بإمكان المرأة أن تكون رئيسا".
ونجحت أم كلثوم بالفعل في نيل منصب رئاسة النقابة، وكان للأمر أثر ملحوظ وعام انعكس على الصوت النسائي وعلى الشكل الذي ينظر من خلاله المجتمع إليه وساهم في تمكين مسائل استقلالية المرأة وحريتها ودخولها إلى سوق العمل الفني وقدرتها على اختراق عالم القيم الذكورية وإعادة تشكيل الثقافة.
على جدران الشوارع وفي الموسيقى الإلكترونية
قبل سنوات، انتشرت في بعض أحياء بيروت رسومات تظهر أم كلثوم وهي تغني "بوس الواوا" للنجمة الاستعراضية هيفاء وهبي، واستخدمت مجموعة "نون النسوة" في مصر صورة لأم كلثوم مع عبارة "أعطني حريتي أطلق يديا" المأخوذة من أغنية "الأطلال" الشهيرة وكذلك رفعت تظاهرة نسائية في بيروت ضد التحرش الجنسي والعنف الذي يصيب المرأة صورة لأم كلثوم وهي تحمل سكين مطبخ مع عبارة "إنما للصبر حدود" المأخوذة أيضا من أغنية لها كعنوان للتحدي والمواجهة.
وظهرت أم كلثوم في أعمال تشكيلية لفنانين معروفين مثل جورج بهجوري وعادل السيوي وأسعد عرابي وشانت أفيديسيان، تحضر فيها إلى جانب كتلة من الرموز المنتمية إلى ثقافات المنطقة وكأنها تتماهى معها أو تمثل حضورها المفتوح والمطلق.
وعرف توظيف أم كلثوم في مجال الموسيقى الحديثة وتجاربها شهرة واسعة مع شغل سعيد مراد على بعض أغانيها وأبرزها "ألف ليلة وليلة" في عام 2001 بطريقة "الريمكس" التي تعمل على إعادة إنتاج العمل الفني القائم عبر استخدام عناصره الأصلية ودمجها مع عناصر مختلفة لمنحها طابعا جديدا يغاير ما كانت عليه في الأساس مع الحفاظ على بنيته الأساسية.
حققت "ريمكسات" سعيد مراد نجاحا كبيرا ولافتا اعتبر معه أنه أعاد الشباب إلى أم كلثوم وساهم في تعريفهم اليها عبر إظهار احتمالات ممكنة في أغانيها تظهر قدرتها على الانسجام مع التجارب الحديثة.
وفي عام 2013 قدم سمير سريان الملقب بـ Hello Psychaleppo تجربة لافتة في الدمج بين صوت أم كلثوم والموسيقى الإلكترونية. ففي ألبوم Gool L'ah عرض مقطوعة بعنوان Tarab Dub تحتوي على مقاطع من أغنية أم كلثوم "مين اللي قال" مع إضافة مجموعة من الإيقاعات الالكترونية.
واستعادت فرقة "كايروكي" الشهيرة في ألبوم "أبناء البطة السوداء" الصادر عام 2019 أغنية أم كلثوم "أنساك"، مستخدمة عبارتين منها هما "كان لك معايا" و"سنين ومرّت" في صيغة تمزج بين مناخ الأغنية الأصلية وموسيقى الروك والإيقاعات الحديثة.
وخرجت إلى النور توظيفات غزيرة لأغاني "الست" عبر وسيط الموسيقى الإلكترونية والإيقاعات الحديثة. وتحتل أغنية "إنت عمري" موقع الصدارة بين أكثر الأغاني التي استُلهمت، فظهرت نسخ منها لفنانين مثل جواد بن عيسى و"الدي جي" روكي وغيرهما.
ترجمة الأثر
ما يجمع بين كل هذه الاستعادات والتوظيفات، أنها تحاول ترجمة أثر أم كلثوم، سواء بالاعتراف أو بالتناقض أو الاعتراض، فالرسومات التي تجمعها مع هيفاء وهبي تستحضر صوتها الذي لا يُضاهى في مقابل ضعف صوت النجمة الاستعراضية، بوصف ذلك احتجاجا على الرداءة. صورة أم كلثوم لا تقابل صورة هيفاء وهبي ولا تدخل في مقارنة بصرية معها، بل يبدو لافتا أن صورة ام كلثوم تنفي الصورة بمجرد حضورها وتُحلّ الصوت مكانها وهذا ما لا يتيسر لغيرها وما يشكل بصمتها الفريدة.
في سياق النسوية والاحتجاج وتصويرها تحمل سكينا وتصرخ "إنما للصبر حدود"، يتجلى الموقع الذي يعبر عن التمثل النسوي لها في الحاضر، إذ أن أم كلثوم دأبت عبر صوتها على اختراق منظومات السلطة الذكورية في زمانها، بكل بناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لتصنع نموذجا رمزيا قادرا وفاعلا وممتدا يُلتقط في الحاضر بمستويات مختلفة تستلهم ما كان الصوت رسمه لنفسه من مقام وسيرة.
والاستعادة الإلكترونية لها عبر تجربة سمير سريان تظهر الصوت مسيطرا على المشهد ومؤسسا لمستقبله المتمثل في أنواع الموسيقى التي تنبت منه، فعلى العكس من المتوقع من الجيل الجديد بدا صوت أم كلثوم في هذه التجربة أصلا، وبدا أن الموسيقى الحديثة تقع في الخلفية وتسعى للتناغم معه والتواصل مع حضوره الطاغي.
وتعاملت فرقة "كايروكي" مع أم كلثوم بكثير من الصخب والاحتجاج في إطار صنع موقف من الوهم وصناعته كما تقول كلمات الأغنية، ولكن الصوت يظهر مستعليا على الزمن وقادرا على إجبار مستعيديه على إبرام حوار معه بشروطه.
لم تكن الاستعادة تبخيسية أو ساخرة كما قرأها البعض، ولكنها كانت محاولة للحوار والتفاهم والاعتراض والنقاش من داخل ما كان الصوت أسس له والذي ما زالت أصداؤه تتجاوب مع مزاج الحاضر وتنفتح على خيارات المستقبل لترسم ملامح "ديفا" شاءت أن تكون صوتا فحسب.
عاشت أم كلثوم في مفهوم الصوت ووسعت فكرته وحدوده ليخترق الزمان، مشكلا تجربة فريدة يمكن بالعودة إليها تفسير السؤال الذي لا يزال يتكرر مع كل ذكرى لأم كلثوم والمرتبط بلماذا لم يظهر من يضاهيها أو يخلفها؟ الإجابة الكاملة عن هذا السؤال معقدة للغاية ولكن من الممكن بناء إجابة موجزة ومكثفة تتمثل في أن لا أحد يرغب في رهن حياته كلها للصوت وأن يحيا بالصوت ومن أجل الصوت، فنجوم اليوم يتعاملون مع الصوت بوصفه وسيلة، في حين كانت أم كلثوم تراه الغاية كل الغاية، لذا نجحت في أن تجعله ليس مجرد صوت هائل في غابة أصوات بل الصوت بتمام التعريف وكماله.