تُعد علاقة أم كلثوم والشاعر أحمد رامي من أكثر العلاقات الاستثنائية بين مغنية وشاعر، وأثمرت عن مجموعة من الأغاني الطربية التي جسدت معاني الحب والشوق واللوعة، متفوقة في كلماتها وادائها، لتصبح عابرة للوقت والزمن. على مدار خمسين عامًا، قدّم رامي لأم كلثوم قصائد وأبيات شكّلت نقلة نوعية في الأغنية الطربية والعربية، وحملت بين سطورها رسائل مخفية تعكس مشاعر عاشق. وثّقت كلماته الأحاسيس العاطفية كما عايشها جيله، مسجلة تطور التعبير عن الحب والمشاعر خلال القرن العشرين، حتى رحيل أم كلثوم عام 1975.
اللقاء الأول
سافر أحمد رامي عند بداية عشرينيات القرن الماضي، في بعثة دراسية إلى فرنسا استمرت حوالي سنتين. في هذا الوقت، كانت أم كلثوم قد انتقلت من قريتها طماي الزهايرة بمحافظة الدقهلية إلى القاهرة، وبدأت في ترسيخ مكانتها في الساحة الغنائية. كانت في فترة انطلاقتها وغنت على المسارح الكبرى مثل مسرح البوسفور ومسرح حديقة الأزبكية. تعرَفت آنذاك على مجموعة من أبرز الموسيقيين والملحنين، ومن بينهم الشيخ أبو العلا محمد، الذي قرر منحها فرصة غناء قصيدة "الصب تفضحه عيونه"، لتكون بذلك أول قصيدة يغنيها صوتها من كلمات أحمد رامي، دون أن يكون بينهما أي لقاء مباشر حتى ذلك الوقت.
في إحدى أمسيات عام 1923، عاد رامي من باريس وسمع عن صوت جديد يلفت الأنظار في مسرح الأزبكية. حضر الحفل بدافع الفضول، لكنه وجد نفسه أمام تجربة غير متوقعة. صعد إلى المسرح وطلب من المطربة الشابة أن تغني قصيدته، وعندما بدأت أم كلثوم في الأداء، شعر وكأن كلماته تكتسب روحًا جديدة لم يعرفها من قبل. في تلك الفترة، كانت الألحان تميل إلى البساطة النسبية، مع التركيز على إبراز قدرات المطرب الصوتية والتعبيرية، أما القصيدة فكانت مؤلفة من أبيات شعرية مُقفاة. استطاع الشيخ أبو العلا محمد أن يقدم اللحن بجمل موسيقية تتناسب مع معاني الكلمات، مع إبراز جماليات صوتها وإمكانياته.
كان صوتها آنذاك قويًا ومرنًا، يغطي مدى صوتيًا واسعًا، وتمتلك قدرة فائقة على التحكم في النفس والأداء التعبيري، بخامة صوتية غنية تجمع بين الرقة والقوة، مما منحها تفردًا في الأداء. توجه إلى الكواليس بعد انتهاء الحفل حيث التقاها للمرة الأولى. في تلك اللحظة، أدرك أنه وجد صوته في صوتها، وبدأت واحدة من أهم الشراكات الفنية في تاريخ الأغنية العربية، ممزوجة بحب ظل حديث الناس والصحافة طوال حياته.
بداية التعاونات
منذ لقائه الأول بأم كلثوم، لم يكن أحمد رامي بحاجة إلى الإفصاح عن مشاعره بالكلام، فقد تكفّلت قصائده بذلك. كتب لها الكلمات واحدة تلو الأخرى، كأنها رسائل حب غير مُرسلة، فيما كانت هي غارقة في مسيرتها منشغلة بفنّها، تردّ عليه بالغناء. في العشرينيات، بدأ هذا التعاون يأخذ شكله الحقيقي، فكتب لها "البعد طال" من ألحان القصبجي، الذي كان أحد أبرز من أسهموا في تشكيل ملامح بداياتها، كما كتب "خايف يكون حبك"، وغيرها من الأغنيات التي صنعت مزيجًا من الشجن والرومانسية بصوتها.
وهكذا بدأت رحلته الطويلة في نسج الكلمات على مقاس صوتها. لم يكن الأمر مجرد تعاون فني، كان أشبه برسالة حب ممتدة خطّها في أكثر من 300 أغنية، تنقلت بين أفلامها وأمواج الإذاعة والمسارح التي وقفت عليها. وعلى الرغم من أنه كتب ما يزيد عن 500 أغنية في حياته، غنّى بعضها محمد عبدالوهاب وأسمهان ونجاة، إلا أن صدى كلماته ظل مرتبطًا أكثر بأم كلثوم، وكأنها الوحيدة التي استطاعت أن تمنح شعره الخلود بصوتها.
حديث الصحافة
في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كانت الصحافة الفنية تتابع عن كثب العلاقة بين رامي وأم كلثوم، متداولة أخبارًا عن تفاصيل خاصة بينهما. قيل إنها خصصت له يوم الاثنين من كل أسبوع، وهو يوم إجازته من دار الكتب حيث كان يعمل، وكأنها بذلك تحتفظ له بموعد ثابت في حياتها. كما انتشرت قصة الخاتم الذي أهدته له، والذي نُقش عليه "O.K" نسبةً إلى أول حرفين من اسمها، ما زاد من التكهنات حول طبيعة علاقتهما. ومع ازدياد الحديث عن هذا الرابط العاطفي، ظهرت أيضًا معلومات تفيد بأن رامي، بدافع حبه الكبير، رفض تقاضي أي أجر مقابل القصائد التي كتبها لها.
في تلك الحقبة، كانت الصحف تتناقل أخبارًا غير عادية عن هذه العلاقة، وتزعم أن رغم زواجه في الأربعينيات، كان قلبه لا يزال ملكًا لأم كلثوم. حتى أنه في إحدى المناسبات، كان هناك صحفي فضولي قرر أن يستفز الإجابة على هذا الحب، فسأل زوجة رامي عن رأيها في العلاقة التي كانت تربط زوجها بأم كلثوم، كان الجواب مفاجئًا: "كلنا بنحبها". وكان من بين الأشخاص الذين شهدوا على هذه العلاقة الدكتور فكري صالح، الذي كان موسيقي وصديق مقرب من رامي. وفي إحدى المقابلات التي جرت معه، تحدث عن تلك العلاقة الخاصة ، قائلاً: "حب ليها كحبه لنهر النيل أو حبه للأهرامات وهي الملهمة الأولى في حياته"، ولعلها أكثر جملة تلخص هذه العلاقة.
قصائد رامي وألحان السنباطي
في خمسينيات القرن الماضي، شهدت العلاقة بين الشاعر أحمد رامي وأم كلثوم تحولات فنية عميقة أثرت في مسار الأغنية المصرية. خاصة بعد أن تزوجت من الدكتور حسن الحفناوي، وهو طبيب أمراض جلدية مصري مشهور، في عام 1954. كانت البداية مع أغنية "يا ظالمني" عام 1954، وهي قصيدة تنبض بالظلم والعتاب، وتحكي عن العواطف المجروحة وحب ضائع. في العام التالي، أضاف رامي لمكتبة أم كلثوم أغنية "ذكريات" التي نقلت المستمعين إلى عالم من الذكريات الحزينة والحنين العميق. ثم جاءت أغنية "عودت عيني" في 1957، التي عبرت عن الحب الصادق والوفاء الأبدي.
لكن ما ميز هذه الأغاني هو التناغم الرائع بين كلمات رامي وألحان رياض السنباطي، الذي أجاد ترجمة مشاعر الشاعر عبر ألحانه. استمرت هذه الرحلة الفنية خلال الستينيات، فبعد أن قدم رامي لأم كلثوم "هجرتك" في 1959، التي عبرت عن الفراق والألم، أظهر السنباطي قدرة مذهلة في استخدام مقام البيات ليتناغم مع مشاعر الشاعر الحزينة.
عاد مع بداية الستينيات مرة أخرى ليثبت أن العلاقة دخلت مرحلة جديدة مع أغنية "حيرت قلبي معاك" في 1961. تميزت الأغنية بمشاعر الحيرة والتساؤل، حيث استخدم السنباطي مقام الحجاز ليخلق طابعًا موسيقيًا يعكس الدهشة. ثم جاء دور أغنية "جددت حبك ليه"، التي أضافت طبقة جديدة من مشاعر الحب والتساؤلات.
رثاء أم كلثوم والوداع
تنتشر العديد من القصص التي تروي العلاقة الفريدة بين أحمد رامي وأم كلثوم، ومن بين هذه القصص، يقال إنه في إحدى حفلاتها، كانت تقف على أعلى الدرج، بينما كان رامي يقف في آخره، التفتت إليه وسألته: "ما تطلع يا رامي مالك؟" فأجابها، "أطلع إزاي وروحي نازلة؟". في آخر أعمالها مع رامي جاءت أغنية "يا مسهرني" سنة 1972، التي عبر فيها عن مشاعر العتاب بعد فترة من الغياب. في هذه الأغنية، اختصر رامي حالة من الحزن واللوم على الغياب الطويل، ليجعل من كل كلمة في الأغنية مشهدًا دراميًا ينبض بالحب والجروح.
رحلت بعدها أم كلثوم في 3 فبراير 1975، وأصيب الشاعر بحالة من الحزن العميق والاكتئاب، فقد كانت جزءًا لا يتجزأ من حياته الفنية والشخصية على حد سواء. كان من الطبيعي أن يشعر بفراغ كبير بعد فقدانها، فقد كان يراها أكثر من مجرد زميلة فنية، بل كانت بمثابة مصدر إلهام عميق، وهو ما يوضح جليًا في العديد من قصائده التي أبدعها خصيصًا لها. وعندما تلقى خبر رحيلها، شعر وكأن جزءًا كبيرًا من روحه قد فقد، وكان ذلك مؤلمًا له بشكل لا يوصف.
في رثائه لها نظم قصيدة افتتحها بجملة مؤثرة: "ما جال في خاطري أنّي سأرثيها بعد الذي صُغتُ من أشجى أغانيها". وكان صوته وهو يلقيها أمام الرئيس المصري الراحل أنور السادات، مبحوحًا خافتًا يغمره الحزن والبكاء على فراق بعد علاقة ود وحب وعمل فني دامت خمسة عقود.
المراجع: