المراجعة الكلاسيكية: ألبوم "بتونّس بيك" لـ وردة

بالتزامن مع ذكرى رحيل وردة الجزائرية، نعود في المراجعة الكلاسيكية هذا الأسبوع إلى ألبومها "بتونّس بيك"، الذي صدر عام 1992، وشَهِد التعاون الأول لها مع المُلحّن صلاح الشرنوبي.
وردة
وردة
Change Font Size 20

كانت وردة الجزائرية تنوي التوقف عن إصدار أغاني جديدة، من بعد تقديمها لآخر أغنية لحّنها لها بليغ حمدي "بودعك"، سنة 1991. لكن فصلًا جديدًا من مسيرتها الفنية الكبيرة بدأ بالعام التالي، بعد التقائها بالمُلحّن الشاب صلاح الشرنوبي، لتبدأ تعاونها معه بأغنيتها الأيقونية، "بتونس بيك"، التي صدرت ضمن ألبوم يحمل الاسم ذاته ومُكوّن من أربعة أغانٍ: "بتونس بيك" و"بنخاف من العين" و"يا خسارة" و"مليت من الغربة"، كَتَب كلماتها جميعًا الشاعر عمر بطيشة ولحّنها صلاح الشرنوبي ووزعها طارق عاكف.

بعد تراجعها عن فكرة الاعتزال، رَغبَت وردة بصناعة ألبوم مختلف شكلًا ومضمونًا؛ ألبوم راي باللهجة المصرية. فبعد أن بدأ العالم العربي يستسيغ هذه الجنرا الموسيقية التي ينتمي لبلدها الأم بتأثير نجاح "ديدي" للشاب خالد سنة 1991، كانت وردة مُنفتحة على التعاون مع الشباب لخوض هذه التجربة. وفي ذلك الوقت سمعت من عمر بطيشة "بتونس بيك"، التي جعلتها تُعدّل خطتها، لتسأل عن مُلحّن الأغنية، وتلتقي بصلاح الشرنوبي، وتبدأ معه كتابة أجمل سطور الفصل الأخير برحلتها الفنية، الذي بدأت بألبوم "بتونس بيك"، لترسم فيه ملامح مختلفة للأغنية العربية في التسعينيات.

لم تكن "بتونس بيك" بداية لمحطة جديدة في رحلة وردة الفنية وحسب، بل كانت أيضًا نقلة نوعية في مسار الموسيقى العربية بالمجمل؛ التي كانت بذلك الوقت تعيش تحت تأثير موجة الأغنية الشبابية التي ظهرت في الثمانينيات، بإيقاعاتها السريعة ومدتها القصيرة، التي تتراوح ما بين 3-5 دقائق. أعادت وردة بأغنية "بتونس بيك" الأغنية العربية إلى مسارها الطربي السابق، بعد إجراء بعض التعديلات بما يتناسب مع روح العصر، تُرضي بها الذائقة الجمالية لأجيال مختلفة من مُستمعي الموسيقى العربية. تحولت "بتونس بيك" إلى واحدة من أبرز الهيتات حينها، رغم أن مدتها طويلة نسبيًا وتتعدى 14 دقيقة.

اختزلت أغنية "بتونس بيك" جماليات الأغاني الطربية الطويلة، وقدّمتها بخفة لا متناهية. تبدأ الأغنية بافتتاحية موسيقية مُثيرة، تتحاور بها الآلات الموسيقية على مقامات موسيقية مختلفة بانسيابية، لتفتتح الكمانجات القطعة على مقام النهاوند ويرُد عليها القانون بتقسيمات بياتية. يبدأ بعدها صولو الأكورديون على مقام الحجاز، والذي يُمكن تصنيفه بين أجمل صولويات الأكورديون في تاريخ الموسيقى العربية كاملًا. وبعد مرور دقيقتين ونصف تبدأ وردة الغناء على مقام النهاوند أيضًا، لتُغني بخفة ودلع الكلمات الغزلية البسيطة، التي يزيد من إثارتها الوقفات والسكتات القصيرة التي تفصل بين موازين الجملة الموسيقية الواحدة، والتي تخلق نوعًا من التشويق مع كل وقفة: "لما تقرب.. أنا بتونس بيك/ ولما بتبعد.. أنا بتونس بيك"، والجواب الواحد لكل ظرف أو حالة يزيد من غنج الأغنية وخفتها. أما المقاطع التالية يتم تعزيز الملامح الطربية للأغنية مع الغناء على مقام السيكا.

في الأغاني الثلاث المُتبقية في الألبوم، طبّقت وردة فكرة مشروع الألبوم الذي كانت تنوي صناعته أصلًا، لتُقدم أغاني باللهجة المصرية تحتضن تأثيرات موسيقى الراي وتسير على إيقاعاته. جاءت هذه الأغاني متوسطة الطول، أقصرها "بنخاف من العين"، وأطولها وأكثرها تميزًا "مليت من الغربة" التي تصل إلى 12 دقيقة؛ وهي الأغنية التي أُشير إلى أن شقيق وردة، مسعود فتوكي، هو من ولّف مقدمتها، من خلال مزج موسيقى الفلامنكو الإسبانية مع إيقاعات الراي الجزائرية.

هذا المزيج الموسيقي الخاص، الذي ظهر للمرة الأولى والأخيرة في مسيرة وردة، بأغاني ألبوم "بتونس بيك"، والذي اعتمد على المزاوجة بين مكونات الأغنية المصرية الحديثة والراي الشعبي الجزائري، بدا شديد الإثارة بأغنية "مليت من الغربة" بوجه خاص. ربما كان ذلك لأنها اقترنت بثيمة الغربة، وما يقترن بها من أفكار وتساؤلات حول الوطن والهوية، لتبدو الإيقاعات الجزائرية الشعبية التي تضبط الأغنية ذات معنى، وتعكس الحزن المبطن في شخصية وردة. يأتي ذلك بخلاف أغنيتي "بنخاف من العين" و"يا خسارة"؛ فلفحة الحزن في "مليت من الغربة" تطغى ولا تُغطيها سرعة الإيقاع واللازمة المثيرة سهلة الحفظ؛ فهي تُسيطر على الأغنية منذ ترديد الآهات الأولى، ومع كل مرة تُعيد بها وردة كلمة الغربة.

ورغم أن مشروع وردة لتمصير الراي الجزائري ظلّ محدود النطاق والانتشار، إلا أن ألبوم "بتونس بيك" هو واحد من أبرز المحطات في مسيرة وردة الفنية بلا شك، ولاسيما أن أغنية "بتونس بيك" ذاتها رسمت ملامح مشروع وردة الفنية في السنوات اللاحقة وصارت مرجعًا للأغنية الطربية المعاصرة.

+ اقرأ المزيد عن
أحدث المواضيع