المراجعة الكلاسيكية: ألبوم "رحيل" لحميد الشاعري

نستعرض ثاني ألبوم منفرد للكابو حميد الشاعري، والذي أُنتج عام 1984 بالتعاون مع فرقة يحيى خليل وفرقة المزداوية
No Image
Change Font Size 20

قبل سبعة أعوام من واقعة منع نقابة الموسيقيين المصريين لحميد الشاعري من مزاولة مهنته في الغناء والتلحين والتوزيع، كان حميد يستعد لإصدار ألبومه الثاني "رحيل" بالتعاون مع رفاق سنواته الأولى فرقة المزداوية. والمزداوية فرقة ليبية تعاونت مع علاء عبد الخالق في ألبوم "وياكي"، وفارس في "حكتبلك"، وحميد الشاعري في أول ألبوم له "عيونها"، بالإضافة إلى ألبومات أخرى، وفي عملها مع حميد على ألبوم "رحيل" وضعت الفرقة علامات فارقة لتلك الفترة، وأدخلت من التراث الشعبي الليبي إلى عالم موسيقى البوب المصرية.

شهد الألبوم أيضًا تعاونًا مع فرقة يحيى خليل في التوزيع، المنتشية حينها بنجاح ألبوم "شبابيك" الصادر قبلها بثلاثة أعوام لمحمد منير، والذي أحدث فارقًا في المشهد الموسيقي المصري، وقدم منظورًا مختلفًا للبوب بلمحات من الجاز.

شكّل ألبوم "رحيل" الصادر عام 1984 نموذجًا لأسلوب عمل حميد الذي أوصل النقابة للتحامل عليه وإيقافه عن العمل بعد سنوات، مدركين أنه سيكون الرجل الذي سيغير مشهد الموسيقى المصرية إلى الأبد، عبر الكثير من العناصر التي رفضوها حينها. اتّضح ذلك سواء على مستوى الكلمات التي شارك في كتابتها صلاح الشيخ وصالح الحارثي وحسن الصيد ومراد موسى وشريف مروان ومجدي خفاجة، أو التلحين الذي تولاه حميد الشاعري وبدري كلباش مع فرقة المزداوية، كما وزّع الألبوم بنفسه مع فرقة يحيى خليل.

تركّبت كل الأغاني من أبيات قليلة، بشكل مستحدث ذكي مستوحى من كون أغاني التراث الشعبي قصيرة وقليلة الأبيات، وركّزت الكلمات على ثيمة الاغتراب، من خلال العلاقات العاطفية، أو الحنين للوطن، كتجسيد ذاتي لمشاعر حميد الذي اضطر إلى الهرب من ليبيا في شبابه. نسمع ذلك في أغانٍ مثل "يا غالي": "يا غالي ودعنا/ في الغربة ما ننساك/ والدنيا أحلى معاك"، وفي "يا مركب الغية": "يا مركب الغية/ عدي بيا بحور… يا مركب عدينا/ موج الصعب عدينا".

كما قدَّم الألبوم لأول مرة اللهجة الليبية لتكون حاضرة بقوة في المشهد المصري، بملامح واضحة جذابة مثل تعطيش الجيم والقاف، ومصطلحات مثل "خشيتي" "وين؟" "صار" "ريد مواجع". هذا بالإضافة للالتقاط الذكي لتفصيلة الأداء الصوتي البشري للازمة، والموجودة في التراث الشعبي كتقنية مرتبطة بالشرائح الاجتماعية التي تقدّمه، والتي تستند إلى التلحين بمعاونة الأصوات البشرية أو التصفيق أو الطرق. يحضر ذلك بكثافة في أغنية "رحيل" في اللازمة "يا لا لالي/ ويا لا لالي" وفي "وين أيامك وين"، أو في "يا بنية خشيتي بالي"، أو في إنترو "يا غالي".

بعيدًا عن انطباع ورأي نقابة الموسيقيين حول خرق حميد للمقسوم الشرقي التقليدي في تلك المرحلة، وما ترتب عليه من تبعات، لكنه يبقى مجازفة ضخمة تستحق التأمل والاحتفاء. لا يعود ذلك لسلطوية المقسوم المستندة إلى كونه عامل مؤسس للموسيقى الكلاسيكية بأقطابها ورموزها المختلفة أم كلثوم محمد عبد الوهاب عبد الحليم حافظ وغيرهم، وماتفرع عنه من صوت المقسوم الشعبي مع أحمد عدوية وغيره، لكن أيضًا لأن الأذن الموسيقية لمستهلكي الموسيقى في السوق المصري اعتادت مزيج الطبلة والعود والكمنجة، وإيقاعاتها لها وقع موسيقي تتوارثه الأجيال حتى بتحديثاته. ربما كان ألبوم "شبابيك" السبّاق في تقديم تصورًا وتوزيعات غربية للموسيقى المصرية وتنفيذها بحرفية عالية، لكن "رحيل" تفوق عليه بالتجريبية.

اعتمد في خط اللحن الرئيسي للألبوم ككل على البايس درام، مع الجيتار، واستعمال الأوتوتيون، والسترينجات المشدودة للجيتار الكهربائي. ثمَّ ظهرت المزيد من الإضافات والتخصيصات لكل من الأغنيات. سمعنا البيانو مع الدفوف في "وين ايامك وين"، والأورج مع صولو الجيتار الكهربائي الممزوج بالمؤثرات الهوائية والتي تحدث لمسة من التشويش. كما وظَّف الناي الصعيدي الحزين في "يا غالي"، التي تدور حول الغربة، وهو توظيف ذكي لأن البيئة الصعيدية من أكثر البيئات التي يرتبط أهلها بها في مصر، ويصعب عليهم مفارقتها، ولذلك ميراث من المحتوى الدرامي والموسيقي.

كذلك، يدخل حميد العديد من الأدوات والإيقاعات المستمدة من التراث الشعبي الليبي على مدار الألبوم، مثل الفلوت والدربكة والزكرة. ساهمت هذه الآلات في تحميل الألبوم روحًا راقصة مبطنة، رغم إصرار حميد على الحفاظ على التمبو المتوازن الذي يحمل مساحة من الهدوء.

تتبنى أغنية "يا لايمين" إيقاع الديسكو السريع، مع تمازجات صوت صنوج متقطعة ومشوش، تشبه إيقاعات ذروة الرقصات البدوية. أما الأغنية الرئيسية التي تحمل اسم الألبوم "رحيل" فقدّمها بلحن روك كامل دون أي تدخل لآلات أو إيقاعات شرقية، بكل إنحراف مفاتيح الكيبورد عن النوتة، والدرامز المتتابعة، والفواصل المحملة بصولو البيانو. لا نعرف اليوم بدقّة ما مدى اتساع القاعدة الشعبية لموسيقى الروك في الثمانينيات، لكن خطوة الكابو هذه كانت تجريبية جريئة للغاية ولابد. بدا وكأنه أراد التعبير عن تجربة تركه لليبيا بأكثر من جنرا موسيقية، خاصة وأن الكلمات تمزج بين الحب العاطفي والرحيل عن المكان، وإن كان يبدو متجاوزًا لهذه المشاعر في جملة: "وأنا أعرف ايه غيرني".

بعد حوالي أربعين عامًا على صدور الألبوم، انتشر مقطع لمصطفى قمر وإيهاب توفيق وهم يأدون بصحبة حميد الشاعري أغنية "وين أيامك وين" في كواليس إعلان تجاري. هذه القفزة الخاطفة التي أتاحت لنا سماع الأغنية وقد صمدت وعمّرت مع مرور الزمن، تدفعنا للتفكير بأن البومات مثل "رحيل" كانت تجارب معبّرة عن مدى ثورية واختلاف الكابو، وقد قدّم لشريحة الشباب في الثمانينيات قطعة فنية خالدة تعبر عنهم وعنه، وإن كان لربما قد دفعها ثمنها سنوات طويلة من المنع كان فيها في قمة إنتاجيته.

+ اقرأ المزيد عن
أحدث المواضيع