أحيانًا تكون القصص خلف الأغاني العظيمة بسيطةً للغاية، لا تتجاوز كونها ورشة عمل بدأها الموسيقار محمد عبدالوهاب خلال ساعات قليلة لصالح الإذاعة المصرية، ليقدم خلالها أغنية أيقونية في تاريخ الموسيقى العربية.
نجاح الأغنية الذي تجاوز كل التوقعات، جاء في الواقع بناءً على قرارات عبدالوهاب المدروسة والخبيرة التي جعلت يختار بدقة شركاءه في صناعة هذه الأغنية، وبإلهام من تعبير بسيط كانت تردده والدة الشاعر حسين السيد، حتى أصبحت "كليشيه" احتفالات عيد الأم، وطقس سنوي لا يفوت الجمهور الاستماع إليه طوال ستة عقود.
في هذا المقال، نتتبع قصة ميلاد هذه الأغنية، من الفكرة الأولى حتى لحظة بثها الأول عبر أثير الإذاعة، وكيف استطاعت أن تحجز مكانها في وجدان الأجيال المتعاقبة.
احتفال عيد الأم لأول مرة في مصر
بدأ الاحتفال بعيد الأمهات للمرّة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية، عندما أعلن الرئيس وودرو ويلسون عن أول عيد أم رسمي في الأحد الثاني من مايو/ أيار عام 1914. ومن هناك، انتشرت هذه الفكرة إلى العديد من الدول حول العالم، لتصبح مناسبة يحتفل بها الناس من مختلف الثقافات.
أما في مصر، فكان للصحفي والإعلامي علي أمين دور كبير في بداية الاحتفال بهذا اليوم. ففي عام 1956، كتب في عموده الصحفي بجريدة الأخبار عن سيدة اشتكت من أن أولادها لا يزورونها ولا يهتمون بها، وتحدث فيه عن ضرورة تكريم الأمهات، وطرح فكرة عيد الأم. عرض بعدها الفكرة على وزارة الثقافة، التي أعجبت بالفكرة وأقرّت الاحتفال بعيد الأم في 21 مارس من كل عام، وهو اليوم الذي يتزامن مع بداية فصل الربيع.
في العيد الثالث للأم عام 1958، تواصلت مقررة لجنة عيد الأم السيدة زينات الجداوي، مع الإذاعة المصرية بطلب تقديم أغنية تليق بهذه المناسبة. بعد ذلك، تم الاتصال بالموسيقار محمد عبدالوهاب، الذي وافق على الفكرة وبدأ العمل على تنفيذها فورًا، وكان قد عُرف عبدالوهاب لحبه لأمه وتشير المعلومات إلى أن صورتها لم تفارق مكتبه حتى وفاته.
اختيار الكلمات بلمسة حسين السيد
وعلى الرغم من أن عددًا من المغنيات قد تطوعن لتقديمها، إلا أن عبدالوهاب أصرّ على اختيار فايزة أحمد، التي أحب صوتها. خاصةً وأنه صرّح في واحدة من مقابلاته أن صوتها يشبه الكريستال أو الألماس اللامع والبراق، لتكون هذه الأغنية أول أغنية تغنيها فايزة من ألحانه.
أما فيما يتعلق بالكلمات، فقد اختار عبدالوهاب الشاعر حسين السيد لكتابتها، وذلك بسبب العلاقة الوطيدة بينهما وتاريخ طويل من التعاون الفني كان قد بدأ في أواخر الثلاثينيات. قدما سويّةً أغنية "يا مسافر وحدك" التي صدرت سنة 1942، كما قدما عدد كبير من أغاني أفلام مثل أغنية "طبيب عيون" من فيلم "رصاصة بالقلب".
عبدالوهاب وفايزة: التناغم الأول
اتصل عبدالوهاب بالشاعر والذي كان معروفًا لغزارته الكتابية وقدرته على تنفيذ المطلوب بأسرع وقت، وسرعان ما بدأ بالعمل عليها ويقول في واحدة من مقابلته أنه ما إن عرف الثيمة، حتى بدأت الأفكار تنهمر من رأسه، ولم تستطع مجاراة القلم. أمّا مصطلح "ست الحبايب" كانت هي فاتحة الشرارة للكتابة، خاصة وأنها كانت تعبير تردده أمه على مسمعه، فأتبعها بجمل شعرية ومفردات قوية مع تدرج في مشاعر الحب والتقدير "يا حنينة وكلك طيبة".
في نصف ساعة استطاع السيد أن يكتب اللازمة واتصل بنفس اليوم بعبد الوهاب الذي بدأ بتلحينها وهو معه على التلفون. وفي اليوم التالي، طلب عبدالوهاب من فايزة أحمد أن تأتي لتسمع المذهب واتصل بالشاعر الذي انضم إليهم، وبقيوا حتى صباح اليوم الثاني يكتبون ويلحنون ويعدلون بكلمات الأغنية.
إذاعتها للمرّة الأولى
وهكذا، تم تسجيل الأغنية وإذاعتها لأول مرة، حيث انهالت الاتصالات على الإذاعة مطالبة بإعادتها، حتى اضطر المسؤولون إلى إلغاء بعض البرامج والأغاني الأخرى لإذاعتها أكثر من مرّة. استطاعت فايزة أحمد أن تلامس القلوب وتثير الدموع، مُبرهنة على صدق إحساسها وتميز خامة صوتها، وأن اختيار محمد عبد الوهاب لها كام موفقًا إذ جمع صوتها بين الحزن والفرح، ونقلت المشاعر بقدرتها على التطريب وتلوين الكلمات وإيقاعها بشجن.
بعد سنوات قليلة من تقديمها، ومع بداية التلفزيون في الستينيات، تقرر تصوير الأغنية. تم الاستعانة بالمخرج محمود الصيفي لتقديم مشاهد سينمائية احتفالية بهذا العيد، فاختار الفنانة عزيزة حلمي ومحمد العوض لتجسيد مشاهد احتفال الأم مع أولادها وأحفادها. صُوّرت المشاهد بالأبيض والأسود، وجاءت قريبة من الناس.
تناقلت الأجيال هذه الأغنية عبر الزمن، لترسيخ مكانتها كأيقونة خالدة في مناسبة عيد الأم. لم يقتصر تأثيرها على مصر فحسب، بل امتد ليشمل مختلف أنحاء المنطقة، حيث أصبحت جزءًا من وجدان المستمعين واحتفالاتهم بهذه المناسبة، حتى بعد أكثر من 67 عامًا على صدورها.