لا تشكل منافسة بلطي لنجوم الموسيقى في رمضان من خلال غنائه لتترين لمسلسلين مختلفين مفاجأة لمن يعرفه جيدًا، لكنها كانت كافية لتحليل مشواره الطويل والانبهار بقدرته الدائمة على التجديد ومجاراة الجيل الأصغر سناً في المشهدين التونسي والعربي.
فعلى مدار ما يقرب من ثلاثة عقود، سطع نجم بلطي أولاُ بوصفه عرابًا لجنرا الراب في تونس، ثم نجمًا عابرًا للحدود بامتياز عندما قدم إحدى أكثر الأغاني استماعا على يوتيوب في العالم العربي، قبل أن يقدم شراكات ناجحة مع فناني الجيل الجديد مثل إليانا أو فناني البوب مثل آدم.
انتقل من الراب للغناء وإيقاعات الأفروبيت والالكترونيك والبوب ونجح فيها جميعًا. كما لم تقف اللهجة التونسية أبدً كعائق أمام المستمع العربي الذي أحبه وأحب أغانيه.
هذه جولة مع أبرز محطات عرّاب الراب التونسي.
فرقة ولاد بلاد نواة البداية
بدأ بلطي مشواره الفني عام 1997 ضمن مجموعة "ولاد بلاد" التي كانت من أوائل فرق الراب التونسية. جذبه هذا النوع من الفن الغربي منذ أن كان في التاسعة من عمره. تناولت الفرقة الموضوعات التي يعاني منها الشارع التونسي، وطرحت المشكلات الاجتماعية بشجاعة دون خوف من الرقابة ومن بينها البطالة والفقر، على غرار توجه الراب العالمي.
كان الهدف فرقته آنذاك تقديم صوت ونبض الشارع بطريقة عصرية ومناسبة للجيل الصاعد، وساعدهم على ذلك سهولة إنتاجها تقنيًا ورقميًا.ومع ذلك لم يُكتب لمجموعة "ولاد بلاد" الاستمرار، وتفرقوا عام 2000.
بلطي منفردًا
في عام 2002، أصدر بلطي ألبومه الأول، ليبدأ رحلة تطوير أسلوبه في القوافي والإلقاء، مع الحفاظ على هويته الموسيقية. واصل مسيرته بإطلاق عدة ألبومات لم تخل من التعاونات الفنية، من أبرزها Le Journal عام 2010، والذي أصدره دون أي دعم إعلامي يُذكر، خاصة أن الراب لم يكن يحظى آنذاك باهتمام وسائل الإعلام التقليدية.
ساعده في بناء شعبيته اعتماده على "الراب النظيف" الخالي من الألفاظ النابية أو المحتوى الذي قد يثير استياء الجمهور، وذلك احترامًا لتقاليد وأعراف المجتمع، مما جعله قريبًا من مختلف الفئات. ورغم التزامه بمناقشة قضايا المجتمع، إلا أنه لم يسع إلى إثارة الجدل بقدر ما ركز على إيصال رسائل اجتماعية هادفة بأسلوب سلس ومباشر.
لكن هذا النهج جعله عرضة للهجوم، حيث رأى بعض متابعي الراب أنه لم ينتقد السلطة بشكل كاف خاصة خلال فترة التوترات السياسية التي سبقت اندلاع الثورة التونسية عام 2011. ومع ذلك ظل بلطي متمسكًا بأسلوبه حتى اليوم.
أكثر من 700 مليون مشاهدة
رغم كونه يعتبر من جيل الأولدسكول الذي لم يتمكن العديد من المنتمين إليه في العالم العربي من مواكبة التحولات الموسيقية الحديثة، إلا أن بلطي كان الاستثناء.
شكل عام 2017 محطة ذهبية في مسيرته، حيث حققت أغانيه ملايين المشاهدات. فقدم أعمالًا بارزة مثل "ولا ليلة" و "خليها على ربي" قبل أن يتعاون مع الفنانة الإستعراضية زازا في أغنية "آه لو لعبت يا زهر" وهي في الأصل أغنية شهيرة للمغني الشعبي المصري أحمد شيبة، والتي حققت نجاحًا واسعًا في مصر وخارجها.
اتهم أحمد شيبة بلطي بسرقة الأغنية أو محاولة استغلال شعبيتها لتحقيق الشهرة. كما تعرضت للحذف مؤقتًا على يوتيوب بسبب اعتراض شركة السبكي المالكة للأغنية الأصلية قبل أن يحصل بلطي على تصريح لإعادتها.
غير أن الأيام أثبتت أن بلطي لم يكن بحاجة لتلك الأغنية ليحقق نجاحًا منقطع النظير. ففي العام نفسه، أصدر بلطي أغنيته الشهيرة "يا ليلي" مع حمودة، والتي شكلت نقطة تحول كبيرة في مسيرته الفنية، وحققت نجاحًا استثنائيًا على جميع الأصعدة. تجاوزت الأغنية حاجز 700 مليون مشاهدة على يوتيوب وحده، وهو إنجاز لم تحققه في العالم العربي سوى أغاني معدودة، مما ساهم في تعزيز مكانة بلطي على مستوى إقليمي وعالمي أيضًا.
التنوع الموسيقي واستمرار النجاح
حافظ بلطي على مكانته كـ "عرّاب الراب التونسي" لكنه لم يكتفِ بذلك، بل نجح في توسيع نطاق موسيقاه خارج الحدود التونسية. لم يلتزم بالفلو المعتاد لمغني الراب، بل سعى لتطوير أسلوبه باستمرار، حيث مزج إيقاعات الأفروبيت والموسيقى الإلكترونية مع هويته الموسيقية، مضيفًا لمسات من الإيقاعات الشرقية التي برزت في أغنيات مثل "يا حسرة"، أو من إيقاعات الفلامنكو التي سمعناها في أغنيته "أنا".
اللافت أيضًا تعاونه مع الموزع الموسيقي جيمي حداد، الذي أصبح عنصرًا مشتركًا في العديد من أعمال بلطي الناجحة، ومنها أغنية "ألو" الصادرة عام 2022. في هذه الأغنية يسترجع بلطي مشاعر الحنين إلى الماضي، حيث يناجي شبابه الضائع ويتذكر حبيبته التي رحلت متحسراً على تقلبات الحياة التي لم تكن لصالحه.
عزز هذا الاتجاه مكانة بلطي، إذ حققت الأغنية أكثر من 100 مليون مشاهدة على يوتيوب، ما جعلها واحدة من أنجح أعمال بلطي في السنوات الأخيرة. دخلت الأغنية قائمة الـ هوت 100 حيث تحتل المركز الـ 52 بعد 13 أسبوعاً.
التعاونات الفنية: بوابة بلطي للوصول إلى جمهور أوسع
لم يعتمد بلطي في مسيرته على النجاح الفردي فحسب، بل حرص على تقديم تعاونات موسيقية متنوعة، سواء مع فنانين من نفس الجنرا أو آخرين ينتمون إلى أنماط موسيقية مختلفة.
من أبرز هذه التعاونات أغنية "أحلى سنين" مع آدم، التي جمعت بين الراب والأسلوب الغنائي العاطفي، كما تعاون مع الفنانة إليانا في أغنية "غريب علي"وهي مزيج من موسيقى البوب والريجي، وقد حظيت باهتمام عالمي حيث وضعتها منصة سبوتيفاي على شاشات تايمز سكوير ضمن برنامجها "رادار".
ورغم مرور أكثر من 25 عامًا على انطلاق مسيرته، فإن بلطي لا يزال يقدم أعمالًا جديدة قادرة على المنافسة في الساحة الموسيقية، حتى أمام الفنانين الشباب.
يؤخذ عليه أحيانًا النبرة الاجتماعية الناصحة والبناءة المبالغ بها في بعد الإصدارات مثل "راسي لفوق" الصدارة قبل شهرين، لكن هذا حافظ على شعبيته لدى جمهور أوسع، ولعل أبرز دليل على ذلك هو مشاركته في الموسم الرمضاني الحالي، والذي يؤدي خلاله تتر مسلسل "النجدين" و تتر مسلسل "صاحبك راجل" الذي تميز بموسيقى مستوحاة من إيقاعات الديسكو في الثمانينيات.