برحيل نعيمة سميح عن عمر 71 عامًا، فقد المغرب أحد أصواته الأكثر تفردًا وتأثيرًا. امتد مشوارها الفني لأكثر من خمسة عقود في رحلة بدأت بمعارضة العائلة وشهدت تألقا ذهب بها إلى مسارح عالمية. تركت نعيمة سميح إرثًا غنيًا من الأغاني التي تجاوزت زمنها، مثل "ياك أجرحي" و"راح" و"جاري يا جاري". بصوتها الدافئ وبحّتها المميزة، لم تكن مجرد مغنية، بل إحدى ركائز الأغنية المغربية العصرية.
في نعيه لها، قال ملك المغرب إن غيابها خسارة "ليس لأسرتها فحسب، وإنما للساحة الفنية الوطنية التي فقدت فيها نجمة متألقة، سطعت في سماء الطرب المغربي لعقود، بصوتها الشجي وإحساسها العميق، مقدمةً أعمالًا ستظل خالدة في ذاكرة الأغنية المغربية والعربية."
البدايات: موهبة مبكرة ومعارضة عائلية
وُلدت نعيمة سميح عام 1953 في درب السلطان، الدار البيضاء، وهو حي خرج منه العديد من الأسماء البارزة في الفن والثقافة. نشأت في بيئة محافظة حيث لم يكن الغناء خيارًا متاحًا بسهولة للنساء، لكن موهبتها فرضت نفسها مبكرًا.
في أواخر الستينيات، شاركت في برنامج "مواهب" الذي أعدّه عبد النبي الجيراري، رغم رفض والدها الشديد. بإصرارها، تمكنت من إقناعه بالموافقة على شرط أن تغني فقط الأعمال الدينية والوطنية، لكن طريقها سرعان ما قادها إلى الأغنية العاطفية التي صنعت شهرتها.
صوت لا يُشبه غيره
كانت سميح تملك صوتًا قويًا يميّزه دفء نادر، مدعومًا ببحة طبيعية مستمدة من جذورها الأمازيغية. هذا التفرد جعلها قادرة على أداء ألوان غنائية متعددة، من الأغنية المغربية التقليدية إلى الألحان الحديثة، بل وحتى الأغنية الخليجية التي اشتهرت فيها بأغنية "جيتك لبابك حبيبي".
في عام 1977، أصبحت واحدة من قلة الفنانات العربيات اللواتي غنين على خشبة الأولمبيا في باريس، بعد أم كلثوم وفيروز، ما يعكس مكانتها المتقدمة في عالم الغناء العربي.
"ياك أجرحي": الأغنية التي صنعت الأسطورة
رغم سجلها الحافل، ارتبط اسمها بشكل خاص بأغنية "ياك أجرحي"، التي أدّتها بإحساس جعل كثيرين يظنون أنها تعكس تجربة شخصية. في لقاء إعلامي، روت أنها تعرّفت إلى الأغنية بالصدفة عندما التقت الشاعر علي الحداني في الرباط، فطلب منها غناء مقطع منها، ثم اقترح عليها أدائها كاملة. حفظت الأغنية خلال يومين فقط، وسجلتها عام 1975.
بعد فترة قصيرة، أُصيبت بفقر الدم ودخلت المستشفى، وصادف ذلك انتشار الأغنية في الإذاعة. هذا التزامن جعل الجمهور يربط بين حالتها الصحية وكلمات الأغنية، ما أضاف إلى تأثيرها العاطفي وأرسى علاقتها الفريدة بها.
نعي وتأبين من الوسط الفني
بمجرد إعلان وفاتها، توالت رسائل النعي من الفنانين الذين عرفوها عن قرب. كتبت سميرة سعيد، التي جمعتها بها صداقة منذ الطفولة: "لم تكن فقط صوتًا استثنائيًا، بل إنسانة دافئة، كريمة في مشاعرها، تملأ الدنيا بضحكتها وروحها الطيبة. منذ طفولتنا، كنت أنا الطفلة المشاغبة، وهي الفطرية التي تتصرف بعفوية نادرة."
أما الفنان وليد توفيق، فاستذكر حضورها القوي قائلًا: "فنانة كبيرة بموهبتها، وأكبر بصدقها. كنت كلما سمعتها أغنياتها، شعرت أن الصوت يحمل قصة حقيقية."
كما عبّر حسين الجسمي، ولطيفة رأفت، وجنات عن حزنهم لفقدانها، مشيرين إلى تأثيرها العميق في الأغنية المغربية والعربية.
إرث فني حيّ
عُرفت نعيمة سميح بحرصها على اختياراتها، فلم تغنِّ أي عمل لم تشعر به. في أحد لقاءاتها، قالت: "المغني الناجح لم يعد ملك نفسه، بل ملك جمهوره، وعليه أن يحترم ذائقته."
تعاونت مع أهم الشعراء والملحنين، مثل علي الحداني، أحمد الطيب العلج، عبد القادر الراشدي، وعبد القادر وهبي، وقدمت أعمالًا تجاوزت الزمن وبقيت حاضرة رغم ابتعادها عن الأضواء لسنوات.
لم تكن نعيمة سميح صوتًا عابرًا، بل جزءًا من الذاكرة الغنائية المغربية، برحيلها ينطفئ حضورها، لكن صوتها يظل ممتدًا عبر الأجيال.