تستعد هيئة الموسيقى السعودية، برعاية سمو وزير الثقافة الأمير بدر بن عبد الله بن فرحان آل سعود، لتنظيم حفل "روائع الأوركسترا السعودية" الذي سيتم إحياؤه في 28 سبتمبر/ أيلول القادم في العاصمة البريطانية لندن على مسرح سنترل هول وستمنستر. يأتي ذلك ليتبع عروضها في كل من باريس ومكسيكو سيتي ونيويورك.
بالتزامن مع هذا الإعلان، نتذكر أبرز اللحظات التي شهدناها خلال حفل روائع الأوركسترا على مسرح أوبرا متروبوليتان في نيويورك، بالتزامن مع اليوم الوطني السعودي الثالث والتسعين.
الفصل الأول: إرث الأغنية على الخشبة العالمية
تتمثّل أولى أسباب نجاح وتميز حفلة روائع الأوركسترا السعودية على مسرح أوبرا متروبوليتان في نيويورك في ما قدّمته من ثراء وتنوّع في الإيقاعات التي تعود جذورها إلى مختلف مناطق المملكة. أرضى هذا التنوّع مختلف الأذواق، الأمر الذي ظهر جليًّا في حماسة الحضور وردود أفعالهم، فملؤوا الصالة بالتصفيق بعد كل مقطوعة جادت بها الفرقة بقيادة المايسترو رئاب أحمد، الذي تكلل بالنجاح في هذه المناسبة وإن كانت ما تزال من بين الأمسيات الأولى التي ينجزها. كان قد وقع الاختيار على المايسترو رئاب أحمد ليرأس الأوركسترا فيخلف الموسيقار وعازف الكمان محمد أمين قاري الذي رحل عنا العام الماضي.
قدمت فرقة الكورال خلال الحفلة الكثير من النماذج الإيقاعية التي استحالت أغنيات خلال التسعين سنة الماضية، إذ بنت هذه الأغنيات ألحانها مستندةً إلى الثراء الإيقاعي التراثي للمنطقة. تجلّى ذلك في تقديم أحدث ما انتقاه فنان العرب محمد عبده من هذه الإيقاعات في أغنيته صوتك يناديني، من ألحانه وكلمات سمو الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن الذي أعلن في سياق سابق عن حبه لهذه الأغنية.
قدمت الأوركسترا فيما يلي لون وإيقاع الدانة في أغنية على العقيق اجتمعنا، ولو أنها سرَّعت نوتة اللحن عن المتعارف عليه في بطء إيقاع الدانة كما عهدناه مع الملحنين الروّاد في المملكة محمد علي سندي وطارق عبد الحكيم منذ أكثر من سبعين عامًا. جاء إيقاع الدانة كمقدمة لبدء الاستعراض المطول للإيقاعات التراثية الأخرى التي تزامنت مع عروض أدائية كما سنورد بالتفصيل في الفصل الثاني.
أما مع نهاية الحفلة التي تنوعت فقراتها، فاستمعنا إلى ميدلي لأشهر الأغنيات السعودية من حقب زمنية مختلفة، تم التنقل والربط بينها بما يلائم الإيقاع، ومنها أحبك ليه أنا ما أدري ورهيب لعبد المجيد عبد الله، وقالوا ترى لعبادي الجوهر. استمعنا كذلك عبر الميدلي لأغنية عميد الموسيقى السعودية طارق عبد الحكيم ابكي على ما جرالي، وتلتها جاني الأسمر للفنانة عتاب ويا سيدي يا مظلوم لعلي عبد الكريم. أفرد الميدلي مساحة وافية لصاحب الإرث العظيم طلال مداح عبر أغنيات عطني المحبة ومرت ومادام معاي القمر ويا صاحبي ومصدر أحزاني. اختتم المدلي بأغنية شمسك أشرقت لمحمد عبده فيما جاء ختام الحفلة بأكملها مع اللوحة الإبداعية التي رسمتها الأوركسترا لأغنية المجدد.
الفصل الثاني: الإيقاعات وفنون الأداء
خصص الحفل الذي امتدّ قرابة الثلاث ساعات جزءًا غير بسيط لاستعراض وتوثيق كافة أنواع الإيقاعات التي يزخر بها الإرث الموسيقي للسعودية والمنطقة. فبعد وصلة افتتاحية قدمت موسيقى الدانة، انتقلنا مع الأوركسترا نغميًا وجغرافيًا إلى المنطقة الشرقية، ليصدح إيقاع الليوة عبر لوحة تعيد تقديم أغنية معشوقتي من أوبريت مولد أمة، من كلمات الأمير الشاعر سعود بن عبدالله. تصدَّر مؤدّو الليوة المسرح متقدّمين بمسافة عن باقي الأوركسترا بتفاصيل أزيائهم الشعبية المعبرة عن جذور هذا اللون، إلى جانب آلات الإيقاع والمزمار التي يمنح صوتها اللمسة المميزة لهذا اللون.
استمعنا بعد ذلك إلى إيقاع الخطوة، وهو الإيقاع الجنوبي المعروف في أبها ومحيطها، ويقدّم عامة بإيقاع التنك. يعتبر إيقاع الخطوة أكثر حركيةً من سواه، وقدمته الأوركسترا من خلال اللوحة البديعة ضامني البرد، لنتابع الإيقاع يُضبط بعفوية مدروسة على برميل أخضر اللون خطف الانتباه بين مجموعة الآلات الإيقاعية المتنوعة المقدمة. بدا توظيف البرميل وكأنه إشارة من مجموعة الأوركسترا إلى ما عرفته الأجيال التي سبقتنا من إمكانية أن يتحول كل ما في هذا العالم في اللحظة المناسبة إلى آلة موسيقية، ومصدر جديد للإيقاع.
ازدان الحفل بعد ذلك بإيقاع الطائف، وتحديدًا إيقاع وادي محرم والمثناة في الطائف، عبر لون المجرور الذي اختار منه المعد أغنية يا ساجعات الحمام التي أبدعها الراحل طلال مداح على لون المجرور، ليتبعه إلى ذلك محمد عبده بتقديم العديد من ألحان المجرور، مثل دستور وياصاح والود طبعي على سبيل المثل لا الحصر. ورغم أن هذا الإيقاع هو ابن جغرافية محددة، إلا أنه وجد انتشارًا كبيرًا وتذوّقه محبّو الموسيقى الشرقية والخليجية في الغرب، وتحديدًا في أمريكا، بعد أن لاقى استحسان الباحثة الأمريكية ليسا يوركوفيتش، وقدمت كتابًا عن المجرور وزِّع في الولايات المتحدة الأمريكية واطلع عليه كثيرون. أتبعت الأوركسترا المجرور باللون السامري النجدي عبر أغنية محمد عبده الشهيرة تستاهل الحب نجدية، ثم فن الربش في أغنية ما هو تشابه. اختتمت الفقرة باللون البحري الينبعاوي الذي يمثل ألوان الغناء الجماعي التراثي، والذي اشتهر بتقديمه في سبعينيات القرن الماضي الثنائي علي عبد الكريم والراحل عبد الوهاب حضيري، واستعادته الأوركسترا عبر أغنية مد الشراع.
الفصل الثالث: استعادات عالمية بتوقيع سعودي
نقلت الأوركسترا السعودية جمهور حفلها إلى الجغرافيا التي تأتي منها، فاستعرضت إرث بلدها الغنائي من القرن الماضي عبر استعادات لأغنيات رموزه وأيقوناته، وعنيت بتمثيل مختلف ألوانه وإيقاعاته الشعبية وفنون أدائه . مع ذلك، لم تغفل الأوركسترا خصوصية المدينة التي تستضيفها والخشبة التي تحتضن عرضها، فحرصت على الاحتفاء بروح مدينة نيويورك وجمهور أوبرا ميتروبوليتان.
جاء ذلك عبر تقديم نسختها الخاصة من أغنية Fly Me to the Moon الأبرز بين كلاسيكيات أيقونة الجاز الأمريكية فرانك سيناترا، بتوزيعات ولمسة شرقية خليجية، ضمن تجربة جديدة ومبهرة للجمهور. تشاركت الأوركسترا كذلك المسرح إلى جانب فرقة Dizzy Gillespie All Star Big Band في أداء لعدد من المقطوعات التي يلتقي فيها الشرق والغرب. بدأت فرقة Dizzy Gillespie عرضها بوصلة جاز منفردة، قبل أن ينضم إليها ثلاثة عازفين من الأوركسترا السعودية على آلات العود والقانون والناي، ويفتتحوا العزف سويًا عبر سطر كلارينيت رد عليه مباشرة الناي بأسطر أطول، وكأننا نتابع حوارًا موسيقيًا آلاتيًا يختصر المسافة بين ثقافتين من هذا العالم.
استمتع الحضور بلحظات سحرية إضافية خلال الأمسية، عندما صدح صوت السوبرانو السعودية ريماز العقبي برنين خاص. تعد ريماز من رائدات موسيقى الأوبرا في السعودية، لذا كانت جديرة بوصلة الأوبرا الخاصة بها والتي اشتملت على ثلاث أغنيات استعرضت فيها احترافيتها وتمرّسها في الأداء. بدأت الوصلة مع مقطع Habanera من أوبرا كارمن باللغة الفرنسية، تلتها أغنية Kiss Me Again لفيكتور هيربرت، والأغنية الإيطالية الشهيرة O Sole Mio.
عُنِي العرض كذلك بكافة التفاصيل والجماليات، فتألقت ريماز ومطربات الكورال بفساتين أرجوانية اللون منحت إطلالاتهن وهجًا مميزًا، فيما أطل أعضاء الفرقة بالزي السعودي التقليدي أبيض اللون، وحظي فنانو الأداء بإكسسوارات إضافية ذات دلالات جغرافية وتاريخية تزينت بها أزياؤهم، ليضفي تصميم الإضاءة لمسة جمالية على الألوان والأزياء. تركنا تأثير كل هذه التفاصيل الموسيقية والبصرية التي تسكن الوجدان، إلى جانب بهاء وهيبة مسرح الأوبرا العريق، أمام انطباعٍ راسخٍ بأننا شهدنا لتونا لحظات قد لا نبالغ إن وصفناها بالتاريخية، على درب تطوّر الموسيقى السعودية.