منذ النغمات الأولى لأداء الأوركسترا والكورال الوطني السعودي لأغنية فرانك سيناترا "Fly Me to the Moon" في دار الأوبرا متروبوليتان في نيويورك، حوار استثنائي تكشّف للملأ، وظهر مزيج فريد من الثقافات داخل لحن واحد مبدع، تم إحياؤه من خلال زخرفة صوت الناي القادم من عمق الإرث العربي. وفي تناغم مع الكلمات الخالدة، أضاف أعضاء الكوال السعودي طبقة إضافية من العمق، مما خلق محادثة آسرة ربطت بين الجغرافيات الموسيقية.
فيما يلي انطلاقها في العام 2021 تحت رعاية وزير الثقافة السعودي ورئيس مجلس إدارة هيئة الموسيقى الأمير بدر، قدّمت الأوركسترا السعودية بنجاح ثلاثة عروض عالمية بعنوان "روائع الأوركسترا السعودية"، حيث حلّت في باريس في العام 2022، ثم مكسيكو سيتي في 2023، ونيويورك في 2023، لتتعاون في كل مرة مع مؤسسة ثقافية مرموقة في المدينة المضيفة. أما هذا العام، ستسافر الأوركسترا والكورال الوطني السعودي إلى لندن لتقديم عرض في 28 سبتمبر/ أيلول 2024، في قاعة وستمنستر المركزية الشهيرة في لندن، جنبًا إلى جنب مع الأوركسترا الفيلهارمونية الملكية البريطانية.
في مؤتمر صحفي عُقد في الرياض في 8 سبتمبر/ أيلول، أكد بول باسيفيكو، الرئيس التنفيذي لهيئة الموسيقى، على قدرة الأوركسترا على تحقيق نتائج متعددة في وقت واحد، وأهمها على حد تعبيره: "أن تظهر للعالم كيف يمكن للموسيقى السعودية أن تجلس جنبًا إلى جنب مع أي موسيقى من أي مكان على أضخم المسارح مع المؤسسات الثقافية الأكثر شهرة على مستوى العالم"، كما يقول. وبهذه الطريقة، يمكن للسعودية أن تأخذ "مكانتها بفخر" بينما تستمر في الاستفادة من التقاليد والتأثيرات الموسيقية لـ 13 منطقة في المملكة.
ويسلط باسيفيكو الضوء على القوة الفريدة للموسيقى في "تجاوز الحواجز الثقافية واللغوية"، مما يتيح للموسيقيين التواصل، وللجمهور تجربة أصوات متنوعة. إن هذا الطموح واضح في عروضهم العالمية، بما في ذلك العروض مع الأوركسترا الفيلهارمونية الدولية في باريس، وأوركسترا كارلوس شافيز في مدينة مكسيكو، وديزي جيليسبي أول ستارز في نيويورك.
من خلال هذه العروض التي وصلت إلى ما هو أبعد من الجمهور المباشر، تركت الأوركسترا بصمة دائمة على الثقافة السعودية. وبينما حضر المئات شخصيًا، تابع المزيد البث المباشر والعروض المتاحة للحضور على منصات البث، مما أدى إلى ضجيج أقسام التعليقات بالفخر والحماس بينما احتفل السعوديون بفنانيهم، وتألقوا على المسارح التاريخية.
المحطة الأولى: باريس، فرنسا
أنغام سعودية تسطع في مدينة الأنوار
ابتدأت هذه الرحلة في أولى محطاتها أمام جمهور العاصمة الفرنسية باريس في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2022، لتحقق أولى نجاحاتها في القارة العجوز أمام جمهور عالمي ذوّاق صعب الإرضاء. خاضت الأوركسترا السعودية حينها عبر 22 عازفًا و40 مغنيًا، محاورةً موسيقية كلاسيكية استندت إلى الإرث السعودي الفلكلوري والمعاصر الغني بألوانه المتنوعة، ردّت عليها بالمقابل الأوركسترا الفيلهارمونية الفرنسية بمقطوعة "مدينة جدة" لمؤلفها الكلاسيكي الإيطالي برناردي، التي عُزفت للمرة الأولى على مسرح دو شاتليه، وكأن الطرفين يحكيان فصول حكاية تاريخية تشهد الموسيقى عليها.
على عكس الأوركسترا الغربية، تدمج الأوركسترا السعودية العديد من الآلات التقليدية التي تحتل مكانة بارزة في ميراث الموسيقى السعودية، سواء كانت الناي أو العود أو الربابة. وعلى الرغم من التحدي المتمثل في دمج آلات مثل الربابة، التي لا تتمتع بضبط قياسي، فإن الأوركسترا ملتزمة بدفع هذه "الآلات التقليدية إلى الأمام في بيئة أكثر معاصرة"، كما يقول باسيفيكو. ونرى هذا يتجلى في التبادل بين الأوركسترا السعودية والأوركسترا الفيلهارمونية الفرنسية، في أدائهما المشترك لأغنية "هابانيرا" من الأوبرا الشهيرة كارمن.
المحطة الثانية : نيو مكسيكو، المكسيك
مارياتشي باليه "فوق هام السحب"
وخلال أقل من عام، في يونيو/ تموز 2023، توجهت "روائع الأغنية السعودية" إلى ميكسيكو سيتي، لتؤدي هذه المرة بصحبة 33 عازفًا و39 مغنيًا، انضمَّ إليهم 40 مؤديًا من فرقة الفنون الأدائية، ليقدّموا تمثيلًا أدائيًا بصريًا للألوان الموسيقية المتنوعة التي عزفت على المسرح بقيادة المايسترو رئاب أحمد، الذي وقع الاختيار عليه ليخلف الموسيقار محمد أمين قاري بعد رحيله. يومها، صدحت المؤلفات الأيقونية لفنانين رموز مثل طارق عبد الحكيم ومحمد عبده وبشير شنان، تصبغها صبغة توزيعية كلاسيكية، ومصحوبة بإيقاعات ولوحات أدائية تنقل صورة عن اللون والفن التراثي والشعبي الذي نسمعه.
فيما يلي ذلك، انضمت إلى الأوركسترا والكورال السعودي، أوركسترا كارلوس تشافيز المكسيكية بقيادة روبيرتو رينتيريا إيرينه، ومارياتشي فرقة باليه فولكلوريكو المكسيكية لأماليا هيرنانديز، ليتماهى العازفون والمغنون والمؤدون في ملحمة موسيقية تجاوزت الحدود والبلدان واللغات، لتحكي حكاية ذات لغة مشتركة. أما الختام فقد كان مع أغنية "فوق هام السحب" التي كتب كلماتها الشاعر بدر بن عبد المحسن، ولحّنها محمد عبده، وقد صدحت الأغنية بحب السعودية منذ نهاية الثمانينيات، وصولًا إلى هذه اللحظة التاريخية حيث تؤديها أجيال لاحقة في النصف الثاني من الكرة الأرضية.
المحطة الثالثة : نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية
الطيران الموسيقي الى القمر
أما مع وصول "روائع الأوركسترا السعودية" إلى مسرح دار الأوبرا متروبوليتان في مركز لينكولن بمدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، في 17 سبتمبر/ أيلول 2023، فكان العرض قد انتقل إلى مراحل ودرجات متقدمة في وقت قياسي. 80 موسيقيًا من فرقة الأوركسترا والكورال الوطني السعودي إلى جانب 60 مؤديًا من هيئة المسرح والفنون الأدائية، تعاونوا على توظيف الموسيقى لتلخيص تاريخ ثقافي يغطي الجغرافيا المتنوعة للمملكة، لنسمع ونشاهد لوحات من فن الليوة وفن الدانا وفن الخطوة وفن المجرور والسامري والربش والينبعاوي.
كان كل تفصيل في العرض مشغولًا بدقة، ومصمَّمًا ليُوصل مع الموسيقى رسائل ثقافية تتجاوز حدود اللغات والكلمات، سواء في الحرص على استعراض الأزياء المحلية المختلفة ذات الدلالات الجعرافية والتاريخية المتنوعة، بما يتناسب مع الفقرات المخصصة لألوان تراثية معينة، أو في مشهد ضبط المؤدين للإيقاع على برميل أخضر اللون الذي كان له رمزيات سياسية واقتصادية، أو اختتام العرض بتقديم أغنية "المجدد"، مضيئةً على فضل صاحب الرؤية خلف وصول الإبداع السعودي إلى المحافل العالمية.
وقد حرصت الأوركسترا على الاحتفاء بخصوصية وعراقة مدينة نيويورك التي تستضيف عرضها، فقدّمت لجمهور أوبرا ميتروبوليتان إلى جانب فرقة الجاز ديزي جيلسبي نسختها الخاصة من "Fly Me to the Moon" الأبرز بين كلاسيكيات أيقونة الجاز الأمريكية فرانك سيناترا، بتوزيعات ولمسة شرقية خليجية. كما برزت على وجه الخصوص موهبة سعودية نسائية شابة، كالجوهرة اللامعة التي ازدان بها العرض، متمثلةً بالسوبرانو ريماز العقبي التي أدت بالإنجليزية والفرنسية والإيطالية مقاطع أوبرا أيقونية. فيما ضمّت الفقرات الختامية للحفل ميدلي، استعرض إسهامات أسماء رائدة في تطوير الأغنية السعودية المعاصرة التي شهدت اجتهادًا ومنافسة كبيرين خلال العقود الماضية.
محطة جديدة هذا العام .. وآفاق جديدة للمستقبل
هذا العام، بمناسبة اليوم الوطني السعودي الخامس والتسعين، ستحط الأوركسترا والكورال الوطني السعودي في المحطة الدولية الرابعة لرحلتها، على خشبة المسرح في سنترال هول وستمنستر، في قلب لندن. تهدف هذه النسخة، التي تضم 98 موسيقيًا سعوديًا، إلى الغوص في طبقات إضافية من التراث الموسيقي المتنوع للمملكة. سيستمر الحفل في تقديم مزيج فريد من التفسيرات الكلاسيكية والمعاصرة للتقاليد الموسيقية في المملكة العربية السعودية. والجدير بالذكر أن هذا الأداء سيضم تعاونًا مع الأوركسترا الفيلهارمونية الملكية ومغنية الأوبرا الشهيرة عالميًا سارة كونولي، مما يضيف بُعدًا ثقافيًا استثنائيًا للأمسية.
في 28 سبتمبر/ أيلول، ستواصل الأوركسترا السعودية استكشاف اتجاهات سيمفونية جديدة، واكتشاف صوتها الفريد والثقة في إمكانية إجراء محادثات متناغمة. وبينما تعرض الأوركسترا والكورال الوطني أحدث أعمالهما، تتجه كل الأنظار إلى لندن هذا الشهر ترقّبًا للألحان النابضة بالحياة التي ستدشن فصلًا جديدًا آسرًا من "روائع الأوركسترا السعودية"، إذ ياتي هذا الاحتفاء بالإبداع والتعاون بمثابة مصدر إلهام يربط الجماهير من خلال لغة الموسيقى العالمية.