شكّلت مسيرة عبدالحليم حافظ نقطة تحوّل مهمة في شكل الأغنية الطربية، وفي زمنٍ كانت تعتمد فيه على الأداء المطوّل والارتجال، قدّم عبد الحليم نموذجًا مختلفًا للأغنية التي تمزج بين العاطفة والدراما، حيث لم تكن مجرد كلمات تُغنّى، بل قصصًا تُروى بصوت يحمل شجن ووجدانية استثنائية.
تميزت أعماله بقدرتها على التعبير عن أدق مشاعر الحب والفقد والحنين، بأسلوب يقرّب المستمع من التجربة الشخصية للأغنية. استند نجاحه إلى اختيارات شعرية دقيقة، وتعاونات موسيقية مع أبرز الملحنين والكتاب مثل محمد عبد الوهاب وكمال الطويل وبليغ حمدي، وغيرهم الكثير من الذين منحوه ألحانًا تعكس تحولات العاطفة بذكاء. كما أن أداءه المسرحي الذي يدمج الإحساس بالحركة والصوت جعل من حفلاته تجربة لا تُنسى.
من بين المواضيع التي تناولها عبد الحليم حافظ في أغانيه، كان للأسمراني نصيبٌ خاص. وربما لم يكن من المصادفة أن يظهر الأسمراني في العديد من أغنياته، فإلى جانب لقبه العندليب الأسمر، تحوّل اللون الأسمر إلى رمز متكرر في أعماله، سواء كصفة لمحبوب غائب أو كتشبيه لنهر النيل، أو حتى كناية عن شخصيته نفسها.
في هذا المقال، نرصد أبرز الأغاني التي تغنّى فيها عبد الحليم بالأسمراني، وكيف انعكس هذا الرمز في موسيقاه وكلماته.
أسمر يا أسمراني
صدرت أغنية "أسمر يا أسمراني" في عام 1957، من ألحان كمال الطويل وكلمات إسماعيل الحبروك. كانت الأغنية جزءًا من فيلم "الوسادة الخالية"، الذي أخرجه صلاح أبو سيف. في البداية، غنّت فايزة أحمد الأغنية للفيلم، لكن عبد الحليم حافظ قدّمها لاحقًا بصوته، واشتهرت نسخته وحققت نجاحًا كبيرًا في مصر والمنطقة. تعتبر هذه الأغنية بداية لسلسلة من الأعمال التي تغنّى فيها عبد الحليم بالأسمراني.
كلمات "أسمر يا أسمراني" مليئة بالأسى والشوق، وتصور حالة من الحب المحموم والحزن العميق. يبدأ المغني بالحديث عن محبوبه الأسمر الذي غاب عنه، ويشكو من شدة العذاب الذي يشعر به بسبب الفراق. على مرّ السنين، تم تقديم نسخ أخرى من الأغنية، ومنها النسخة الشهيرة بصوت الفنان وائل جسار، الذي أضاف لمسته الخاصة للأغنية مع الحفاظ على روحها العاطفية.
جانا الهوى
تعتبر "جانا الهوى" واحدة من الأغاني التي أضافت إلى رصيد عبد الحليم الفني الحافل، حيث صدرت لأول مرة عام 1966. بدأت الأغنية بمسارح الحفلات، وفيما بعد أصبحت جزءً من فيلم "أبي فوق الشجرة" الذي عُرض عام 1969، من بطولة عبد الحليم ونادية لطفي. وتم تصوير مشاهدها في مواقع مميزة في لبنان بين مدينتي بيروت وبعلبك، ما أعطاها طابع الفيديو كليب، في وقت لم تكن الكليبات قد انتشرت في المنطقة.
تميّزت بروحها الخفيفة وصوت عبد الحليم الذي يلامس القلوب، حيث عبر عن حالة من العشق والهوى بكل صدق ويتغزل برموش الأسمراني في كلمات: "ورمش الأسمراني شبكنا في الهوى". الأغنية من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي، وكانت جزءًا من سلسلة تعاونات مع بليغ، سبقها "المقادير" سنة 1963 و"على قد الشوق" عام 1965.
سواح
شكلت أغنية "سوّاح" جزءًا من التراث الفني لعبد الحليم، وصارت واحدة من الأيقونات الموسيقية في عالم الطرب عندما قدمها في نهاية الستينيات. تعاون الثنائي بليغ حمدي والشاعر محمد حمزة على تأليف هذه الأغنية، التي يتناول فيها السواح حقيقة مؤلمة بأن الحب قد يكون مجرد سراب. ويتغنى عبد الحليم برموش الأسمراني في جملته الشهيرة "ورمش الأسمراني شبكنا بالهوى"، التي أصبحت واحدة من أشهر الجمل الشعرية في مسيرته الفنية.
اتسم لحن بليغ حمدي بالتحولات الإيقاعية التي تتماشى مع مشاعر الأغنية. يبدأ اللحن بنغمة هادئة، ثم ينتقل إلى مناطق أكثر ديناميكية كلما تصاعدت مشاعر العشق والحزن. هذا البناء الموسيقي جعل "سوّاح" واحدة من أبرز الأغاني التي جمعت بين الكلمات الرومانسية والموسيقى العميقة، مما أظهر قدرة عبد الحليم حافظ على تجسيد هذه الحكايات من خلال صوته الفريد.
يا تبر سايل
غنّى عبد الحليم حافظ في بداياته عام 1957 أغنيته "يا تبر سايل"، التي أصبحت لاحقًا واحدة من الروائع في أرشيفه الفني. كتب كلماتها الشاعر سمير محجوب، حيث يتغنى فيها بالنيل الذي يُشبَّه بالجمال الأسمر في أفريقيا، معبرًا عن التعلق العميق به. تقول كلمات الأغنية: "يا حلو يا أسمر/ لولا سمارك جوا العين/ ما كانش نور"، ليظهر في هذا التشبيه ربطٌ عاطفي بين النيل والجمال الأسمر.
أمّا اللحن الذي أبدعه محمد الموجي يتناغم مع الكلمات، حيث يبدأ بنغمة هادئة ثم يتصاعد تدريجيًا ليعكس مشاعر العشق والحنين، مع استخدام الآلات الموسيقية التقليدية مثل العود والناي.
فاتت جنبنا
غنّى عبد الحليم حافظ أغنيته الشهيرة "فاتت جنبنا" في العديد من الحفلات البارزة، وكان من أبرزها الحفل الذي أقامه في باريس عام 1974، على مسرح باليه دي كونجري في 17 سبتمبر / أيلول من نفس العام. وكان قد قدّمها للمرّة الأولى في 30 يونيو / تموز 1974 في نفس اليوم الذي غنّى فيه "أي دمعة حزن لا".
تروي الأغنية قصة شخصين يعجبان بنفس الفتاة، وتختار الفتاة في النهاية الشخص الذي يمثله عبد الحليم الذي يقول في كلماتها الشهيرة "أنا من الأول بضحك لك يا أسمراني". ليكون هذه المرة هو الأسمراني، وهي الأغنية التي أكدت اللقب الذي اشتهر به عبد الحليم: العندليب الأسمر.
كتب الأغنية الشاعر حسين السيد الذي تعاون مع عبد الحليم في عدة أعمال سابقة، مثل "حاجة غريبة" و"جبار" في فيلم "معبودة الجماهير". بينما يمثل اللحن الذي قدّمه محمد عبد الوهاب نقلة جديدة في أغاني عبد الحليم، حيث تعتبر "فاتت جنبنا" واحدة من أولى الأغاني العاطفية التي لحنها عبد الوهاب لعبد الحليم بعد أغنية "يا خلي القلب" في 1969.