في أوائل السبعينيات، بينما كانت الأمواج تتكسر على شواطئ كاليفورنيا، وموسيقى ديك ديل، ملك "السيرف روك"، تملأ الأجواء، بجملها المشبَّعة بالأصداء السريعة المتلاحقة، كان عمر خورشيد في القاهرة، على بعد آلاف الأميال، يوصِّل جيتاره بمكبر صوت، فيخرج منه أصواتًا مبهرة: بمزيج من الأنغام العربية، وإحساس "السيكاديليك روك"، وتكنيك يشبه تكنيك الرعشة (tremolo)، المميِّز لموسيقى السيرف روك.
إذا كان ديك ديل هو بحر كاليفورنيا الهادر، فخورشيد هو النيل وقت الغروب؛ بوشيشه الصاخب، والآسر، والمهدهد في آن.
"زغرودة" خورشيد
في ذلك الوقت، كان أسلوب عمر خورشيد الخاص مختلفًا عن جميع الاتجاهات الموسيقية السائدة في العالم العربي. ولد في القاهرة عام 1945، وأظهر فهمًا عميقًا لمقامات الموسيقى العربية خلال عزفه على الجيتار الكهربائي. لكن الأمر لم يكن متعلقا بالمقامات فقط -بل بالإحساس. في تراكات مثل "رقصة الفضاء" من ألبوم "جيتار الشرق" (1974)، يعزف خورشيد لحنًا من سلم صغير، وبريشة سريعة يركِّب عليه تلك الرعشة المميزة لموسيقى "السيرف روك". هذه التقنية المستخدمة بكثرة في العزف على العود، والمسماة بـ"الفِرْدَاش" (أو "الزغرودة" بالعامية المصرية)، لم تكن "حِليَة" أو "زَخرَفة" عند خورشيد، بل أصبحت تشكل الأساس الإيقاعي لموسيقاه.
ولعل هذه التقنية هل الرابط الأكثر وضوحا بين خورشيد وديك ديل، وهو الآخر من أصول متوسطية، إذ ولد باسم عام 1937 باسم ريتشارد منصور، وكان جداه قد هاجرا قبلها بعقود من بيروت إلى الولايات المتحدة. وذكرت صحيفة الجارديان أنه كان يشاهد عمه يعزف على العود إلى جانب الطبلة (الدَّرَبوكّة)، مما ألهمه أسلوبه السريع في العزف على الجيتار. بل إن أغنيته الأشهر "Misirlou" (أو "مصريلو" وتعني "المصرية" باللغة التركية) التي أعاد غناءها فريق بيتش بويز وخلدها كوينتين تارانتينو في فيلمه Pulp Fiction، مقتبسة في الأصل من لحن شعبي كان يُعزف في مناطق عدة من شرق المتوسط من ثلاثينيات القرن الماضي.
كان عزف ديل المكثف والسريع ثوريا في الغرب، لكنه كان مألوفا لمن نشأ على العود والطبل.
أصالة وحداثة
المدهش أن خورشيد وديل، اللذين لم يلتقيا في ما يبدو، أنتجا لغات صوتية شديدة التشابه. فإذا استمعنا إلى وصلة خورشيد في مقدمة أغنية "أغدًا ألقاك"، وجدناها تُقطِّر الأصل الأوركسترالي إلى إيقاعات متباعدة، ووجدنا جيتاره يندفع ذهابا وإيابا بين هرولة "الزغاريد" والألحان المرحة.
مثل ديل، لم يخشَ خورشيد من أن يترك جيتاره يأخذ زمام القيادة -فلا يصير مجرد آلة مصاحبة للفرقة الموسيقية. كان جيتاره يغني، ويبكي، ويرقص رفقة المقامات التي تُكرَّس عادة للغناء أو صولوهات العود.
غير أن خورشيد لم يكتفِ بترجمة التقاليد إلى لغة جديدة، بل كان يعيد تشكيلها بأدوات الحداثة. بعد أن انضم إلى فرقة "ليه بيتي شاه" (التي أسسها وجدي فرانسيس عام 1976 وعزف فيها عزت أبو عوف وهاني شنودة وعمر خيرت وغيرهم)، لفت خورشيد انتباه عبد الحليم حافظ، فضمه إلى فرقته الماسية. كان أول ظهور له مع العندليب (وفقا لموقع ميدل إسيت آي) على مسرح قصر النيل بالقاهرة عام 1968 في أغنية "سواح" من ألحان بليغ حمدي. بعدها بعامين، كانت مشاركته الأولى مع أم كلثوم في أغنية "مرت الأيام". وفي أواخر السبعينيات، أصدر خورشيد ألبوم "أشهر أغاني أم كلثوم" وألبوم "أشهر أغني أم كلثوم"، إلى جانب ألبومات Belly Dance from Lebanon وWith Love (من جزئين).
في توزيعه لأغنية فريد الأطرش "حِبِّينا"، يرفع خورشيد مستوى الصدى، تاركا النغمات تتلاشى في دوامات سيكاديلية الطابع. حين تستمع إليها تشعر بأن تأثيرها ضرب من الخيال العلمي –"سيرف روك" لكن بالمسحة المميزة للستوديوهات القاهرية في العصر الذهبي للسينما. أحيانا، يهيأ لك أنه لا يعزف على الجيتار، ولكن على آلة "الثيرمين"، بنغمات تنثني وتلتوي، تُقَرقِر وتُزغرِد، لكنها تظل لصيقة دائماً بإحساس الموسيقى التقليدية.
جريمة في حق خورشيد
لكن، رغم التشابهات بين خورشيد وديل، يبقى فارق أساسي بينهما: لقد نال ديل اعترافا واسعا بصفته مبتكرا في موسيقى "السيرف روك"، بينما لم ينل خورشيد التقدير العالمي الذي يستحقه، "وهذا أشبه بجريمة"، بحد تعبير شركة Sublime Frequencies التي يديرها الموسيقي الشهير آلان بيشوب، والتي أعادت إصدار عدد من أعماله. حاول الاستماع إلى "Misirlou" لديل و"سيدي منصور" لخورشيد، وستشعر بحوار ممتد عابر للقارات والثقافات وتقاليد العزف على الأوتار، حيث ينطلق الفنانان من الجذور القديمة ذاتها.
وتلك الجذور تعود إلى آلة العود، روح الموسيقى العربية، والـمُلهِم المحتمل لتكنيك "التريمولو" الأساسي في السيرف روك. فالرعشة السريعة على العود، مع مرونته، مهدت الطريق لثورة الجيتار قبل اختراع الجيتار الكهربائي أصلا. وكل من ديل وخورشيد، سواء عن وعي أو عبر إرثهما الثقافي، نقل تلك الروح إلى العصر الكهربائي.
توفي عمر خورشيد في حادث سيارة مروع عام 1981. لكن إلى اليوم، بعد أكثر من أربعين عاما، لا يزال تأثيره حيا في دوائر عشَّاق التُّحَف الموسيقية، وموسيقاه تعزفها فرق "السايكدليك روك"، واسمه يتردد على ألسنة عازفي الجيتار من هواة التجريب، أو المهووسين بالموسيقى من أمثالي. أما مقطوعاته، التي كان يصعب أن نجدها إلا في الأفلام المصرية ومقاطع اليوتيوب، فقد أعيد أصدارها من قبل شركات تسجيل مثل Sublime Frequencies وصوت لبنان. ولا تزال تبدو حديثة اليوم كما كانت قبل خمسين عاما؛ بل وسابقة لزمنها ربما.
من المغري أن نطلق على خورشيد لقب "ديك ديل المصري"، لكن ذلك سيكون اختزالا لتجربته. فهو لم يركب موجة، بل سار في مسار خاص. الأفضل أن نقول إنه وديل يمثلان معا فصلا قلَّما يُروى في تاريخ الجيتار؛ فصل تلتقي فيه تقنيات "التريمولو" مع التقاليد المتوارثة والبراعة الأسلوبية والموهبة العابرة للثقافات.