كان مروان نوردو المولع بجورج وسوف وأغنيته "حبيت ارمي الشبك"، يتسلل قبل ساعات طويلة من بداية حفلات مهرجان قرطاج الشهير ليجد موقعًا سريًا قرب سور المسرح، يختبىء فيه ليتابع الحفلات ويستمع إلى الأغاني.
نوردو الطفل، نزل من مخبئه في سور مسرح قرطاج، وعاد إليه بعد حوالي عقدين نجمًا. بيعت كامل تذاكر حفله الأول في 2023 قبل موعده بأيام، وملأت شوارع المدن التونسية لوحات إعلانية تحمل صورته إعلانًا عن الحدث.
لم تكن رحلة نوردو نحو النجومية متوقعة، ليس لأنه لم يتمتع بالموهبة، ولكن بسبب الصعوبات الاستثنائية التي مر بها خلال سنوات الطفولة والمراهقة. يخبرنا أنه لم يعاني كثيرًا لدخول مجال الفن، بل تمثلت معاناته الرئيسية بطفولة قاسية كان الحصول فيها على أبسط ظروف الحياة صعبًا. تعلم في سن صغيرة كيف يأخذ كل الصعوبات والتجارب المؤلمة التي مر بها معه إلى الاستديو، لتخرج كأغاني تخاطب عواطف الملايين.
في حوار مع بيلبورد عربية في دبي، تحدث النجم التونسي عن كل هذا وأكثر. يقول: "تعذبت وتعب بش (حتى) نعيش. بش نعيش مع العباد بش ناكل في كرشي. بش نرقدش جيعان. ذا هو اللي تعبني. ماكنتش تاعب بش نعمل موزيكا." ويضيف: "الموسيقى غرام وحب. حتي كي وقت ما ناكل شي نبدا نغني."
من السهل معرفة مصادر إلهام نوردو. تشرّب كل تأثير فني في محيطه وتأثر بعوامل كثيرة شكلت صوته: بداية من خالته ذات الصوت الجميل التي حفظ عنها أغانٍ طربية صعبة، مرورًا بتلاوة القرآن لزملائه في المدرسة، وحتى "مجموعة الراب" التي انضم لها، وأخذ من تسميتها اسمه الحالي "نوردو"، وأثرت في تشكيل توجهه الفني الذي استوعب الراب وانتقل منه لفهم عدة جنرات متنوعة يقدمها في أعماله، فلا يمكن حصر صوته في جنرا واحد.
هذه البداية من الراب وروحه الجماعية تركت ولا بد أثرًا في خيارات نوردو مع تطور مسيرته الفردية لاحقًا، إذ بقي نشطًا جدًا في التعاون مع فنانين آخرين. أو لربما كان هذا خيارًا مرتبطًا بشخصيته العاطفية، التي تؤمن بروابط عميقة مع الأصدقاء والصحبة والعائلة وحتى الفنانين الآخرين. منذ بدايته قدّم نوردو تعاونات بارزة مع فنانين ورابرز مثل سنفارا وبلينغوس وستورمي وديدن كانون 16 وآخرين من شمال أفريقيا. بل وكان منفتحًا لاستكشاف مساحات جديدة، فتعاون مع أحمد سعد وزعيم في أغنية "يا عراف"، التي تحولت إلى هيت، وكانت بوابة ليتعرف عليه الجمهور المصري على نطاق أوسع.
لكن التعاون مع نوردو له شروطه وقواعده. يخبرنا شارحًا: "الحقيقة نحنا لازم نكون صحاب قبال التعاون. معناها كي عملت التعاون مع ديدين ولا مع ستورمي ولا مع طانييه، معناها حكينا قبال، حكينا برشا… يعني كنا صحاب وعرفنا بعضنا كإخوة قبال الغنا، فهمتني؟" ويتابع: "وهذا كي علاش الغنية تكون صادقة لازم نعرف بعضنا بالحق. لو مجيناش صادقين مع بعضنا في الدنيا قبال الموسيقى متخرجش الغنية وما تنجحش". ثم ينتقل ليرسي قاعدة صارمة: "أكثر حاجة نكرهها: 'مروان نوردو يلا نعمل هيت' ماهيش هكا تجي الحكاية. عمرها ما تكون هيك".
يدرك نوردو أن للصناعة الموسيقية قواعدها وأهدافها، لكنه يكرر بإصرار أن هذه طريقته هو في النظر للأمور، وأنه يحتاج لأن يفهم الآخر قبل التعاون معه: "نشوف العبد (الشخص) طينته والمعدن بتاعه، صادق ولا مش صادق في الحكاية اللي يكتب فيها".
تأتي هذه الحساسية العالية لمصداقية النبرة والحكاية في الأغنية من كونه يكتب ويلحن لنفسه كل ما يقدمه. فمنذ بدايته، لم يطمح لأن يكون مغني بوب فقط، يؤدي بصوته ما يبدعه له الآخرون، حتى وإن كان صوته يسمح له بذلك.
لصوت نوردو خامة تبرز بوضوح ويمكن تمييزها مباشرةً من بين مئات الأصوات الأخرى. تتشابه خامته مع أصوات المغنيين الأتراك من جهة، فيما يبرز فيها من جهة أخرى شجن كبير، يذكرنا بموسيقى الراي وفنانينها وأسلوب غنائهم. ولعل أبرز مثال على اجتماع الأسلوبين في أدائه يحضر في أغنيته "يا دنيا"، التي حققت له أكبر نجاحات تجارية قبل سنوات، وتجاوز حاجز المئة مليون مشاهدة على يوتيوب.
النجاح الكبير لأغانيه الفردية مهد الطريق لمشروع أكبر وأكثر تكاملًا، فخرج للنور قبل أيام الألبوم القصير "Cotinga". ضمَّ الألبوم 6 أغاني جديدة، استعرض فيها نوردو إلى جانب كتابته وتلحينه، فهمه الكبير وقدرته على تقديم طيف واسع من الجنرات الموسيقية، فصنع كل أغنية بلون موسيقي خاص.
نسمع عبر 6 أغاني ألحان الفلامنكو والآر-أند-بي وإيقاعات الأفرو والتراب، وموسيقى الكناوة المغربية، ويختتم الألبوم بأغنية بوب أكوستيك.
حين سألنا نوردو عن معنى تسمية "Cotinga"، أخبرنا عن طائر عذب الصوت وغريب اللون، له صفات خاصة للغاية، فتراه حين يقود سربه في التحليق يطير في آخر السرب ليحرص ألا ينحرف أي عصفور عن مساره فيضيع.
أما حين سألناه عن دلالة الاسم وإن كان يرى نفسه كهذا الطائر، يخبرنا نوردو مبتسمًا: "أنا حاجات في العصفور. مثلًا نخاف على صحابي. نحب صحابي. نحب ديما نحيط بيهم ديما معايا ديما بحدايا".
حين وصل نوردو لاستديو التصوير لإجراء مقابلة غلاف بيلبورد عربية، وأثناء التحضير للحوار وجلسة التصوير، أخبرنا بحماسة عن تحدي صناعة الألبوم الجديد في فترة قياسية لم ينم خلالها ولم يسترح. ثم غاصت نظراته فجأة وأصبحت بعيدة وهو يحاول أن يستعيد تفاصيل من سنوات خلت، ليخبرنا بتكشف كبير عن أيام صعبة كانت صناعة الأغاني فيها رفاهية لا يمتلكها، فحولها لالتزام وواجب، حتى أنقذه إصراره وشغفه من مصير قاسٍ.
تعود عيناه لتلتمع حين يتحدث عن صبيانه الاثنين، وأنه يفعل كل ما يفعله ليمنحهم حياةً لم يمتلكها هو، ولكنه يشترط عليهم في المقابل كثيرًا من "الحنية" تجاه محيطهم وأصدقائهم والناس الأقل حظًا منهم، فيعلمهم أن يعطوا ويشاركوا ويعتنوا بمن حولهم.
حين تسمع نوردو في حديثه هذا، تدرك أن ما منحته إياه الحياة الصعبة التي عاشها، ليس قصة مستهلكة يشاركها مع الناس ووسائل الإعلام عن شاب عاش صعوبات فاستغلها لتحقيق النجاحات، بل منحته نضجًا هائلًا. ينعكس هذا النضج على حياته الفنية والشخصية على حد سواء، في الكلمات التي يكتبها، والحكايات التي يلحنها ويغنيها، في علاقاته مع أصدقائه وشركائه وأبناءه والفنانين الآخرين، ليقدّم بالمحصلة أعمالًا فنية يحرص فيها - وقبل أي شيء آخر- أن يقدم رسائل صادقة للناس والجمهور، يجدون فيها ما يشبههم.
