اتخذت الأغنية السعودية شكلها المعاصر بعد أن مرت بجملة مدخلات وتغييرات في مطلع القرن العشرين. فبعد أن كانت الأشكال الفنية المالوفة في المملكة في القرون السابقة تقتصر على الإنشاء والغناء الجماعي والإيقاعات، فقد بدأت مدخلات الأغنية الشرقية وآلاتها الوترية تجد طريقها إلى المملكة عبر من ابتُعثوا للدراسة في الخارج، وضمن أوساط تعليمية متواضعة في المدن الكبرى. كما لعبت الإذاعة السعودية بعد انطلاقتها الرسمية دورًا جديًا في تأسيس أولى الفرق الموسيقية الشرقية. نجمع فيما يلي أبرز الأعلام والرواد من ملحنين وشعراء وإعلاميين ومغنيين، ساهموا في انطلاقة وتطور الأغنية السعودية طوال عقود عبر موهبة واجتهاد عظيمين دفعا بالعجلة الفنية إلى الأمام.
فوزي محسون
ولد الملحن والمغني فوزي محسون في حي بحارة الشام التاريخي في مدينة جدة عام 1925. لم يتوقع من شهد طفولته في ذلك الحي التاريخي أنهم يشهدون ولادة موهبة وقامة فنية ستترك أثرًا لا يمحى في تاريخ الأغنية السعودية. عبر ستة عقود من حياته وضع الراحل فوزي محسون اكثر من سبعين لحنًا غناها مطربون مثل طلال مداح وابتسام لطفي وصولًا إلى عبد المجيد عبدالله. كما غنّى بنفسه العديد من الألحان التي حملت كلمات شعراء مثل ثريا قابل مثل "من بعد مزح وحب" وكلمات الأمير بدر بن عبدالمحسن مثل "ناعم يا ندى" وكلمات صالح جلال مثل "يا نايم الليل الطويل".
جمعته علاقات صداقة وطيدة مع رموز الفن في تلك الحقبة، أبرزها مع الراحل طلال مدّاح وقد عملا سويًا في صفوف الإذاعة السعودية في بداياتها، واستمرت تعاوناتهما الفنية لسنوات طويلة بعد ذلك. أما في مصر فقد توطدت علاقته بأم كلثوم وبليغ حمدي، وقد تأثر الأخير كثيرًا بموسيقى فوزي محسون، بل واقتبس منها لمقدمة "الحب كله" جملًا لحنية مع أغنية "عشقته" التي لحّنها فوزي محسون.
لطفي زيني
لربما اشتهر لطفي زيني لكونه ممثلًا أكثر منه مغنيًا، إلى أنه في الواقع سار بالاثنين جنبًا إلى جنب بشكل أدائي متكامل في بداية رحلته في الفنون المسرحية. كان أول ممثل يظهر في التلفزيون السعودي عام 1965 حيث قدّم استكتشات ومونولوجات جمعت بين القصة والتمثيل والأغاني. بالعموم كان لطفي زيني القادم من مدينة جدة والمولود عام 1939 متعدد المواهب بشهادة الجميع، فقد كتب الشعر الحجازي وغنّى ومثّل وعمل في الصحافة وقد كان في شبابه أول صحفي يحاول طلال مدّاح في لقاء في بداية مسيرته. اتجه أيضًا في مرحلة من حياته إلى الإنتاج الفني، وافتتح شركة "زيني فيلم" التي أدارها إلى حين رحيله عام 2001.
ساهم لطفي في كتابة كلمات أهم الاغاني التي ساهمت في شهرة طلال مدّاح طوال حقبة الستينيات وعلى رأسها "اسمع حياتي" و"أحبك لو تكون حاضر". استمر ذلك حتى الوصول إلى آخر أغنية كتبها "ما دام معاي القمر" في الثمانينيات في تحد بين المزح والجد بينه وبين طلال مدّاح، عن قدرته على تقديم أغنية تضرب في العالم العربي من الشعر الحجازي في تلك المرحلة، وقد فعل.
غازي علي
ولد غازي علي في منزل بسوق القفاصة في المدينة المنورة عام 1937، وجمع منذ طفولته بين ملكة شعرية مميزة وموهبة في التلحين والتأليف الموسيقي. ولصقل موهبته توجّه لمتابعة دراسة الموسيقى أكاديميًا في مصر إلى حين حصل على البكلوريوس في التأليف الموسيقي من كونسرفاتوار القاهرة. تحوّل خلال سنوات دراسته قسم الموسيقى الغربية والأوبرالية إلى قسم الموسيقى الشرقية، حيث توطدت علاقته بأستاذه رياض السنباطي. بعد تخرجه انشغل غازي علي بالتعليم الموسيقي في بلده فتولى لسنوات إدارة جمعية الموسيقى، ثم توجه لإدارة معهد تعليمي صغير من منزله.
قدّم غازي علي خلال مسيرته أكثر من 80 لحنًا لفنانين من السعودية ومن مختلف أرجاء العالم العربي، كما كتب أشعار الكثير من الأغاني. من أبرز ما قدّمه طوال مسيرته كان "سلام الله يا هاجرنا" و"أسمر حليوة" التي غنّاها طلال مدّاح، ولحّن أيضًا لمطربين مثل وديع الصافي وفهد بلّان وسميرة توفيق. تتلمذ على يده أبرز فناني الجيل الثاني من الأغنية السعودية مثل طلال سلامة وعبادي الجوهر وعباس ابراهيم ووعد.
ثريا قابل
ربما لم يتوقع أحد في حارة المظلوم في جدة أن الفتاة الصغيرة التي ولدت بينهم عام 1940 ستحمل في يوم من الأيام لقب "شاعرة الحجاز" بإجماع الأوساط الفنية والإعلامية. طوال مسيرتها المهنية كانت ثريا قابل صحفية شجاعة وجريئة، وفي الوقت نفسه شاعرة مرهفة وضعت كلمات أبرز الأغاني في الذاكرة السعودية، لتكون من بين أبرز الأسماء النسائية التي فرضت نفسها في حقبة الستينيات.
بدأت ثريّا عملها الصحفي في جريدة البلاد ثم انتقلت إلى صحيفة عكاظ، ونشرت في جريدة قريش وجريدة الأنوار اللبنانية، وفي مراحل لاحقة كانت رئيسة تحرير مجلة زينة. كما صدر لها في العام 1963 أول ديوان شعري نسائي في المملكة العربية السعودية. اعتزت طوال حياتها من كونها من الأسماء النسائية التي فرضت نفسها عبر كلماتها في عالم الفن في الستينيات إلى جانب مغنيات مثل ابتسام لطفي وتوحة وعتاب. شكّلت كذلك ثنائية فنية ذهبية مع الموسيقي الراحل فوزي محسون، هي في الكلمات وهو في الألحان. أثمر عن تعاونهما سويًا أغنيات حجزت مكانها في الذاكرة مثل "من بعد مسح وجد" التي أدّاهما فوزي محسون بصوته، و"جاني الأسمر" التي أدتها عتاب، و"لا لا وربي" التي غنّاها فنان العرب محمد عبده.
جميل محمود
كان جميل محمود من بين الأسماء السعودية الرائدة التي وجدت طريقها إلى عالم الفن بتأثّره بالتيار الفني في مصر بعد ابتعاثه من قبل كلية الشرطة إلى القاهرة. ورغم تقدّم مرتبته في السلك واجتهاده في وظيفته الرسمية، وجد نفسه بالتزامن مع ذلك منجذبًا لدراسة آلة العود والنوتة الموسيقية، فتتلمذ ف يالقاهرة، وتابع محاولاته بتطوير هويته الفنية أينما ذهب. أدّى موسيقاه في المملكة في عروض واحتفالات شعبية، فبدأت شهرته وأهله ذلك ليكون أول موسيقي سعودي يظهر على شاشة التلفزيون السعودي الذي كان يسمى حينها آرامكو والذي انطلق في نهاية الخمسينيات. ثم قدّم عبر شاشة التلفزيون السعودي، ولمدة امتدت لست سنوات برنامجه الشهير "وتر وسمر".
قدّم جميل محمود الحانه للعديد من فناني السعودية مثل طلال مداح وعبادي الجوهر وعبدالمجيد عبدالله وابتسام لطفي وسعيد مقبل وغيرهم الكثير. ولحّن أيضًا للعديد من الفنانين العرب، وقد غنّت هيام يونس وحدها أكثر من ثلاثين أغنية من ألحانه. تسجل باسمه طوال حياته أكثر من 500 لحنًا مغنّى، كما حظي بموهبة شعرية كبيرة وقد كتب كلمات أكثر من 50 أغنية.
إبراهيم خفاجي
كتب الشاعر الكبير الراحل إبراهيم خفاجي المولود في مكة المكرمة عام 1927، قصائد باللغة العربية الفصحى وباللهجة العامية طوال حياته، وقد بدأ بتقديم كلماته ليغنيها أبرز الموسيقيون منذ الخمسينيات، حيث كان أول غنّى من كلماته الموسيقار المؤسس طارق عبدالحكيم بعنوان "يا ناعس الجفن" الذي أعاد تجديدها وتقديمها لاحقًا محمد عبده. غنّى فنان العرب الكثير من قصائد وكذلك طلال مدّاح ثم صباح وسميرة توفيق وعبادي الجوهر وشريفة فاضل وآخرون. لكن يبقى الإنجاز الأبرز بين أهم الأعمال التي كتبها طوال حياته هو تأليفه للنشيد الوطني السعودي الذي بدأ بثّه رسميًا عام 1986.
نال الشاعر الكبير إبراهيم خفاجي جائزة هيئة الإذاعة البريطانية بي بي سي لأفضل أغنية في أوائل السبعينيات عن أغنيته "أشقر وشعره ذهب". نال أيضًا عام 1985 ميدالة الاستحقاق من الدرجة الأولى تقديرًا لمجهوداته في وضع كلمات النشيد الوطني للسعودية.
عمر كدرس
لمع اسم الملحن والموسيقار عمر كدرس مع بداية الخمسينيات بعد أن شق طريقة إلى الإذاعة السعودية، وأصبح مع عازفي الكمان والعود المحترفين في فرقتها الرسمية، علمًا أنه لم يبتعث أو يدرس في بلد آخر، بل اجتهد وطور نفسه موسيقيًا بما أتيح له مع معرفة داخل المملكة. ورغم أنه عرف منذ صغره بجمال صوته وقوة طبقاته، إلا أن أولويته كانت دائمًا للتلحين. خلال سنوات نشاطه في الإذاعة السعودية شغل مقعد عضو لجنة إجازة المشاريع الغنائية، مما سمع له باكتشاف أصوات استثنائية عمل معها لاحقًا وأبرزها فنان العرب محمد عبده. أما لاحقًا في مسيرته فقد عُيّن مسؤولاً موسيقيًا في إذاعة جدة.
وفي ظل تسابق القامتين الفنيتين محمد عبده وطلال مدّاح طوال عقود على تقديم الأعمال المميزة، فقد غنّى كلاهما من ألحان عمر كدرس، الذي قدّم لطلال أغنيات شكلت علامات فارقة في مسيرته مثل "يا سارية خبريني" و"ووردك يا زارع الورد". مع ذلك، كان عمر كدرس رفيق مسيرة محمد عبده وحققّا بتعاونهما سويًا نجاحات غير مسبوقة للأغنية السعودية عبر أغنياتٍ مثل "ليلة خميس" و"الوهم" و"البعد طال والنوى". جمع بين الاسمين أخوة وصداقة وطيدة لعقود، فقد بقي محمد عبده وفيًا لأستاذه ورفيق دربه حتى آخر أيام حياته. وحتى العام 2002، وفيما كان عمر كدرس يصارع المرض في المستشفى، استأذن الأطباء لمغادرتها لساعات قليلة، وانضمَّ إلى فنان العرب خلال إحيائه لحفل مهرجان جدة. حول هذه الواقعة كتب مؤرخ زياد عساف في صحيفة الرأي الأردنية: "إن عبده قدم كدرس للجمهور آنذاك بكلمات مؤثرة قائلاً: 'أعلن لكم هذه المفاجأة.. رفيق دربي عمر كَدْرَس سيقود الفرقة الموسيقية في الأغنية القادمة.. أدعو له بالشفاء.' وبعد عناق مؤثر بينهما بدأ يقود الفرقة الموسيقية وهو في وضعية الجلوس وفنان العرب يستعيد بصوته واحدة من أجمل الأعمال التي غناها من ألحان كدرس "أغنية ما لي غنى عنك" … وفي نهاية الأغنية ومع تصفيق الجمهور وقف كدرس ليودع حبيبه ورفيقه وغادر المسرح بعدها للعودة إلى المستشفى لمتابعة العلاج لتكون تلك من اللحظات الأخيرة في حياته».
عتاب
ولدت عتاب في الرياض عام 1947، وبدأت نشاطها الفني بالغناء في الحفلات والمناسبات الخاصة خلال حقبة الستينيات. كان الفنان طلال مدّاح قد اكتشف موهبتها فقام بتدريبها على الغناء والعزف، ولحّن لها العديد من الأغنيات التي سجّلتها خارج المملكة، قبل تنتقل للتعاون مع طيف أوسع من المحنين. غنّت من ألحان فوزي محسون وثريا قابل أغنيتها الشهيرة "جاني الأسمر" كما غنّت في مصر من ألحان محمد الموجي أغنيتي "فك القيود" و"لو فات الأوان". ورغم إقامتها في مصر لسنوات طويلة إلا أنها استمرت بالأداء باللهجة السعودية طوال مسيرتها، إذ كانت قد ذكرت في إحدى المقابلات أنه لا يمكن أن يشعر الفنان بالكلمات طالما يغني بلهجة غير لهجته. قدّمت عتاب خلال مسيرتها أكثر من عشرين ألبومًا غنائيًا إلى جانب الأغاني المنفردة، وغنّت من ألحان موسيقيين متنوعين أبرزهم طارق عبد الحكيم ومحمد شفيق وفوزي محسون وعبد الرب إدريس وسراج عمر وسلامة العبد الله والملحن الكويتي يوسف المهنا وآخرين. أمضت عتاب معظم حياتها بالغناء وسجلت اسمها بين أولى الأصوات النسائية في تاريخ المملكة إلى جانب ابتسم لطفي وتوحة، وإن كانت قد تفوقت عليهما في الشهرة وحجم الإصدارات عبر السنوات.
طارق عبد الحكيم
يعتبر الموسيقار الراحل طارق عبد الحكيم الأب الأكاديمي عرّاب الأغنية السعودية الحديثة التي تأسست على يده في منتصف القرن الماضي. كان طارق عبد الحكيم أول من أدخل الموسيقى الوترية إلى المملكة العربية السعودية، وأسس معاهد لتدريس الموسيقى الشرقية وآلاتها، واكتشف وقدّم أبرز المواهب التي عرفها القرن الماضي وعلى رأسهم طلال مدّاح ومحمد عبده.
بعد نشأته في ظروف صعبة والتحاقه بالجيش السعودي، ابتعثته المملكة إلى مصر لدراسة وتعلم الموسيقى وآلاتها. وبعد أن تخرج من معهد الموسيقى العربية في مصر عاد إلى بلده ونشط في مجال الموسيقى العسكرية، وكان من أبرز إنجازاته في هذا المجال إعادة توزيع لحن السلام الوطني وتأسيس معهد موسيقى الجيش في السعودية. بالتزامن مع نشاطه في الموسيقى العسكرية والألحان الوطنية، بدأ يلحن لنفسه ولفنانين قدّم أصواتهم عبر ألحانه، فلحّن لطلال مدّاح "عاش مين شافك" و"يا ناعس الجفن" و"جميل واسمر" وعشرات الألحان الأخرى. لحّن أيضًا لفنان العرب محمد عبده أغنيات مثل "هذا السحر" و"لا تناظرني بعين" و"ٍسكة التايهين" وقد كان سعيدًا بإشرافه على المنافسة الودّية طوال عقود بين المغنيين الأيقونيين ودورها في دفع الأغنية السعودية إلى الأمام. امتد نشاطه الموسيقي إلى خارج المملكة، وغنى من ألحان أبرز نجوم مصر ولبنان مثل "فين يا محبوبي فين" التي غنتها نجاة الصغيرة و"أسمر عبر" لفايزة أحمد و"لا وعينيك" لوديع الصافي على سبيل المثال لا الحصر.
خوّله نشاطه الذي امتد بين بلدان العالم العربي لعقوده ليُنتخب رئيسًا لمجمع الموسيقي العربي مرتين في 1983 ثم 1987. كما حصل على جائزة اليونسكو للموسيقى من المنظمة العالمية للمجلس الدولي للموسيقى؛ وكان سادس موسيقي عالمي يحصل على هذه الجائزة عام 1981م. رحل طارق عبد الحكيم في العام 2012 في القاهرة وفي أرشيفه أكثر من 300 لحنًا غناه نجوم العالم العربي وأكثر من عشر سمفونيات.