رغم أن "من غير ليه" صنعت وفُصلت على مقاس عبدالحليم حافظ، لكنها لم تجد طريقها للجمهور بصوته. أغلقت عليها الأدراج لسنوات طويلة، وتنافس عليها أبرز أصوات المرحلة، قبل أن يقرر محمد عبدالوهاب العودة من الاعتزال لغنائها، لتتحول إلى وداعه الموسيقي الأخير. رسالة مفتوحة بصوته. تطرح أسئلة وجودية وتجد في الحب كل الإجابات.
تعود بداية حكاية أغنية "من غير ليه" إلى عام 1975، حين اتفق العندليب مع موسيقار الأجيال على التعاون مع الشاعر مرسي جميل عزيز لكتابة أغنية لتُقدم في موسم حفلات الربيع.
صناعة الأغنية استغرقت وقتًا أطول من المعتاد بسبب التعديلات التي طلبها عبد الوهاب وعبد الحليم على الكلمات، والتي أدت إلى خلافات، ليستغرق العمل على تلحين الأغنية وتعديلها ما يقارب السنتين. توفي عبد الحليم عام 1977، ولحق به مرسي جميل عزيز بعدها بثلاث سنوات.
ذاع صيت الأغنية في الوسط الفني لكونها التعاون الأخير بين عملاقين بحجم عبد الحليم وعبد الوهاب، وبسبب تفاصيل الخلافات التي أخرت إنتاجها. تهافت العديد من المطربين لمحاولة الظفر بها، ومن بينهم أمير الطرب هاني شاكر، الذي أعاد تسجيلها بصوته. لكن عبد الوهاب رفض منح حقوقها لأي منهم، مؤكدًا أنه لم يجد صوتًا يستحق أداءها.
ثم جاءت المفاجأة عام 1989 حين قرر عبدالوهاب إصدار الأغنية بصوته بعد مرور أكثر من عقدين من على اعتزاله الغناء لتصبح "من غير ليه" آخر أعماله الفنية قبل رحيله عام 1991 عن عمر يناهز 93 سنة.
صدرت "من غير ليه" في زمن لا يُشبهها، وقت كانت فيه موجة الأغنية الشبابية تُسيطر على سوق الكاسيت بأغاني إيقاعية قصيرة، تتراوح مدتها بين 3 و5 دقائق. رغم ذلك، فقد حققت نجاحًا ساحقًا، وتلقفها الجمهور كتحفة فنية من الزمن الجميل.
صوت محمد عبد الوهاب الذي أرهقته السنين أضاف الكثير للأغنية التي تتضمن كلماتها إجابات على تساؤلات فلسفية في سياق عاطفي تأملي: " جايين الدنيا ما نعرف ليه/ ولا رايحين فين ولا عايزين ايه/ مشاوير مرسومة لخطاوينا/ نمشيها فى غربة ليالينا/ يوم تفرحنا ويوم تجرحنا/ وإحنا ولا احنا عارفيــن ليـه".
اللحن هو العنصر الأبرز للعمل، فنجده متنقلاً بين المقامات ليتماشى مع الحالات التعبيرية والتقلبات الشعورية في الأغنية، ليُعير بكل جملة لحنية عن الحيرة والحب والعثور على الملاذ الآمن فيه وعن الأحلام والتساؤلات التي تفصل بين الوهم والحقيقة.
تبدأ الأغنية على مقام النهاوند مع إيقاع الفالس، وينتقل إلى مقام الرست مع إيقاع الوحدة في مقطع "زي ما رمشك خد لياليا". يعود للنهاوند في الفواصل الموسيقية، مع تنقلات بالإيقاعات ما بين مقامي الرست والنهاوند حتى الوصول إلى مقطع "وده ليه يا ترى" لينتقل إلى مقام البياتي.
ترتفع الإثارة في النصف الثاني من الأغنية مع فاصل موسيقي على مقام الهزام وإيقاع الكراتشي، يتلوه تنقلات ما بين مقامي الهزام والبياتي مع الانغماس أكثر بالأحلام والحزن.
أغنية "من غير ليه" كانت الوداع الذي يليق بمحمد عبد الوهاب، وستبقى بلا شك واحدة من الأغاني الخالدة في ذاكرة الموسيقى العربية، تتلهف أهم أصوات الأغنية العربية لتقديمها على المسارح كلما سنحت الفرصة.