كان الموسيقار محمد عبدالوهاب من أول رموز الموسيقى العربية الذين واجهوا انتقادات واتهامات بـ "السرقة". اتهامات كان منبعها تصورات نقاد القرن الماضي حول دور الفنان كمبدع أصلي وأن أي اقتباس بالتالي ليس سوى غش أو كسل.
في الذكرى الـ 123 لميلاد موسيقار الأجيال، وجدنا ضرورة لإعادة فتح باب النقاش حول هذا الموضوع من وجهة نظر عصرية. فلو كان عبدالوهاب حيًا اليوم لكانت اقتباساته وتأثره بالمشهد الغربي أمرًا عاديًا في ظل "عولمة" الموسيقى التي شهدناها في العقود الأخيرة.
عبد الوهاب نفسه كان مولعًا بالحديث بصراحة عن مفهوم الاقتباس ولم يخف أبدًا إعجابه بالمدارس الغربية في عدة مناسبات؛ أبرزها حواره مع الإعلامية ليلى رستم في برنامج "نجمك المفضل"، والذي تحدث فيه عن اقتباساته، وعدم قناعته بقانون جمعية الموسيقيين بباريس المؤسسة في عام 1850، والذي يقر بالسرقة الموسيقية في حالة استعمال أربع موازير مقاييس موسيقية متتالية.
كانت قناعته أن المهم هو كيفية التعامل مع الجمل الموسيقية وليس بعدد "الموازير" مع اعترافه أنه في بداية مشواره قدم اقتباسات مباشرة وفجة دون الإشارة لمصادرها الأجنبية، وهو "تصرف بايخ" بحسب تعبيره.
جاءت الانتقادات الموجهة لعبد الوهاب في سياق ثقافي وشعبي ساده الاحتفاء بمحاولات خلق أصالة تخلو من أي تأثيرات أجنبية، كرد فعل طبيعي على الحقبة الاستعمارية. لذا استهدفه النقاد بقسوة، من بينهم محمد التابعي في سلسلة مقالات تحت عنوان "فن الحرامية" في صحيفة "أخبار اليوم" عام 1962.
خارج إطار تلك "الخناقة" حول الأصالة والتجديد، كان الأمر أبسط بكثير للمستمعين، الذين لم يهتموا بتلك التهم التي ظلت تلاحق الرجل حتى يومنا هذا.
نتناول معكم ست أغاني اقتبس فيها عبد الوهاب موسيقيًا وعُدت مع ذلك من ألحانه الأيقونية.
أم كلثوم - مقدمة أنت عمري
"إنت عمري" هي أول وأشهر تعاون جميع بين بين عبدالوهاب وكوكب الشرق على الإطلاق. تأثرت مقدمة لحن عبدالوهاب بمقطوعة للمؤلفين أميروف وناسيروفا من أوزباكستان. ويتضمن اللحن الأصلي أساسًا إيقاعات شرقية ومقامات عربية.
في المقدمة المقُتبسة من اللحن في "انت عمري"، يستلهم عبدالوهاب روح العود وإيقاعه من المقطوعة الأصلية، بالإضافة إلى الطابع السيمفوني.
الاقتباس: أم كلثوم - مقدمة أنت عمري
الأصل أميروف وناسيروفا - Concerto of Piano and Orchestra after Arabian Themes
محمد عبد الوهاب - لا مش أنا اللي أبكي
يقتبس هنا عبد الوهاب الأداء الدرامي المسرحي لتوني برنت، والذي صاحبته موسيقى أوركسترالية من الكمنجات، ليعبر عن الصراع بين عزة نفسه وكرامته التي جرحها الحبيب. نجده يتنقل بسلالة ومرونة بين الطبقات الصوتية المختلفة، فيقدم العتاب بطبقة منخفضة ويعبر عن الحزم بنغمة أعلى.
الاقتباس: محمد عبد الوهاب - لا مش أنا اللي ابكي
الأصل: توني برنت - The Magic Tango
عبد الحليم حافظ - أنا لك على طول
نسمع الأغنية في مشهد من فيلم "أيام وليالي" على مركب بالنيل ليلًا، لذلك كان من المناسب اقتباس الروح الكورسيكية الساحلية للمطرب تينو روسي، بالتركيز على لحن الفالز الذي يوظف الجيتار والأكورديون. يأخذ الإيقاع تسلسل لحني متكرر مشابه لتسلسل الكورس، ناقلًا روحًا حالمة مستغرقة متناغمة مع أسلوب عبد الحليم الرومانسي بالغناء.
الاقتباس: عبد الحليم حافظ - انا لك على طول
الأصل: تينو روسي - Catari! Catari!
محمد عبد الوهاب - يا مسافر وحدك
التأثر الثقافي المتبادل بين مصر واليونان منذ بدايات القرن الماضي كان واضحاً في الموسيقى، وهو ما نراه "يا مسافر وحدك"، والتي تقتبس في مقدمتها شعور الحزن والأسى لصوفيا فيمبو، والتي تعبر عنه أدائيًا وباستعمال آلات موسيقية يونانية مثل البوزوكي واللاوتو إلى جانب السترينجات.
أما عبد الوهاب فيجعل اللحن مزيجًا يعكس حالة فقد الحبيب الذي سيهجره بالسفر بهدوء لحني من جهة، وحالة ترحال المسافر المليئة بالحركة عبر إيقاع العود والقانون من جهة أخرى.
الاقتباس: محمد عبد الوهاب - يا مسافر وحدك
الأصل: صوفيا فيمبو - Poso Lypamai
محمد عبد الوهاب - جفنه علم الغزل / انطونيو ماشين - El Manisero
أغنية غزلية لليالي الأنس والتجمعات السعيدة. توظف العود ليستلهم من موسيقى السون الكوبية التي تمزج بين الرومبا والأنغام الاسبانية، وتعتمد على المزج بين الترومبيت والترومبون من ناحية البونغو والكونجو والماراكاس من ناحية أخرى، مع الأداء الغنائي الاحتفالي المعتمد على التكرار للجملة الموسيقية.
الاقتباس: محمد عبد الوهاب - جفنه
الأصل: انطونيو ماشين - Elmanisero
عبد الحليم حافظ - يا قلبي يا خالي / راي تشارلز - Hit the Road Jack
يستأصل عبد الوهاب الروح المتمردة الغاضبة المازجة بين الجاز والبلوز من أغنية "Hit the Road Jack"، ليجعلها أليفة هادئة بمفاتيح البيانو العالية، موظفًا الحركة السريعة للإيقاع بالموسيقى المقتبس منها لتعبر عن روح الشباب. الأغنية قدمت في فيلم "بنات اليوم" للمخرج هنري بركات، في سياق تنافس شبابي كوميدي بين عبد الحليم حافظ وأحمد رمزي على حب فتاة واحدة وهي الفنانة ماجدة.