مع بداية التسعينيات، وجد جيل الألفية نفسه على موعد مع انفتاح الإنترنت الذي أتاح له استكشاف عوالم جديدة. بدأت المنتديات المتخصصة بالموسيقى في الظهور بالمنطقة، ليبرز الهيب هوب كأحد أبرز هذه العوالم التي جذبت الشباب بشدة. التقى جيل الألفية في هذه المنتديات حيث تبادلوا الأغاني والفيديوهات وناقشوا كل ما يتعلق بأيقونات الأولدسكول مثل توباك وبيغي ودكتور دريه. تحولت هذه المنتديات في مصر إلى مختبر للأفكار والأساليب، وشاركت هذه التجمعات الافتراضية بوضع الأسس لأسلوب جديد في تبني ثقافة الراب، متأرجحة بين تأثيرات الهيب هوب العالمي ومحاولات خلق هوية محلية. من تلك اللحظة، بدأت مسيرة الإنتاج التي ستفرق لاحقًا بين جيل الألفية، الذي اجتهد باستخدام الأدوات المحدودة، وجيل زد الذي كان يمتلك أدوات أكثر تطورًا بين يديه.
وفي ظل تساؤلات عن ما ينتظرنا من جيل ألفا وتوقعات بإحداث ثورة جديدة في أساليب الإنتاج الموسيقي باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي، أُعلن هذا العام عن ولادة جيل ألفا. لذا، قررنا العودة إلى جذور جنرا الهيب هوب في مصر لإلقاء نظرة عميقة على تطور أدواتها الإنتاجية عبر الأجيال.
أولى تجارب جيل الألفية
في نهاية التسعينيات وبداية الألفية، دخل المشهد في مرحلة من التجريب. كانت المحاولات الأولى غير ناضجة، تفتقر إلى العمق، وخرجت معظم الإصدارات باللغة الإنجليزية متأثرة بموجة الراب العالمية. ومع غياب أدوات الإنتاج الكلاسيكية مثل الـ MPC التي انتشرت في الدول الأجنبية، وجد الفنانون أنفسهم مضطرين لاستخدام بيتات جاهزة محمّلة من الإنترنت وتدفقات معاد تدويرها، في محاولة لإيجاد صوتهم وسط غياب الخبرة التقنية.
حمل المشهد آنذاك ملامح بسيطة، لكنه كان زاخرًا بالإمكانيات. بدأت فرق الهيب هوب الأندرجراوند بالتشكل، وبرزت عشرات الأسماء المستقلة من مدن مختلفة مثل الإسكندرية والقاهرة والإسماعيلية. ظل الإنتاج الموسيقي في مراحله البدائية نتيجة ارتفاع تكلفة معدات الإنتاج وعدم وجود متخصصين، ما شكل تحدي كبير أمام الفنانين المستقلين الذين كانوا بصدد البحث عن مكان لهم في مجتمع لم يتقبل وجودهم أو يعترف بهم بعد.
من البيتات الجاهزة إلى أدوات متطورة
شكل تحول الكلمات من الإنجليزية إلى العربية نقطة تحول فارقة في مسار الجنرا، حيث أسهم هذا التغيير في جعل الجمهور يدرك أنه دخل مرحلة جديدة، أكثر قرباً من الهوية المحلية. وقد أحدث فريق إم.تي.إم ثغرة في جدار العزلة بين الهيب هوب والجمهور المصري، عندما سجلت أول أغنية هيب هوب تجارية "أمي مسافرة" سنة 2003. وعلى الرغم من أن الشباب استعانوا بتقنيات عالية على عكس باقي المشهد كما تعاونوا مع الموزع مصطفى صبحي، إلا أن فكرة انتشار بيت بلدي مع صوت مزمار سجلت تجربة إنتاجية مختلفة عن ما كان باقي المشهد يقوم به.
على أرض الواقع كان جيل الألفية يخوض معركة شاقة مع نفسه وأدواته، في سباق مع الزمن بدأ فيه الجميع من نقطة الصفر، قبل أن تدخل شركات التسجيل والإنتاج على الخط. كانت موسيقى الهيب هوب آنذاك تتسلل بين أيدي الشباب على شكل ملفات محمولة على فلاشات أو عبر المنتديات، وأحيانًا تُسجل على أشرطة الكاسيت وتوزع يدًا بيد كأنها رسائل سرية.
وبالعودة إلى فرق الأندرجراوند، تُعد فرقة واي كرو نموذجًا يمكن من خلاله استيعاب تطور الإنتاج الموسيقي لجيل الألفية، حيث عكست أعمالها ملامح التحول الذي شهده المشهد، من التجريب البسيط إلى الاعتماد على أدوات أكثر تطورًا وإتقانًا. في كليب "لو فاكرين" سنة 2008، الذي مثّل خطوة متقدمة بعد سنوات من انطلاق الفرقة، يظهر أعضاء الفرقة وهم يفتحون بابًا جديدًا في الإنتاج الموسيقي باستخدام جهاز MIDI Controller، أداة متعددة الوظائف أحدثت نقلة نوعية في إنتاج الإيقاعات وتجميع النغمات. يتميز بواجهة تحتوي على لوحة أزرار عازلة يمكن برمجتها لتشغيل أصوات مختلفة مثل الدرامز أو الآلات الموسيقية أو حتى الاستعانة بأغاني أخرى من خلال تقنيات السامبلينغ، ويُرجّح أن هذه الآلية كانت خيارًا شائعًا بين فرق وأسماء الأندرجراوند في تلك الفترة.
سمبلة أم كلثوم على إيقاعات الأولدسكول
مع انتهاء العشرية الأولى من الألفية، كان جيل الألفية قد شكل مفهومًا واضحًا وأرضية صلبة من خلال أدوات الإنتاج التي تعلمها والمهارات التي اكتسبها من الإنترنت وتبادل الخبرات. بدأت أغاني الراب تنتشر بشكل واسع عبر الهواتف المحمولة، حيث كان يتم تداولها عبر البلوتوث وغالبًا ما كانت مجهولة المصدر. ورغم أن عددًا كبيرًا من الفنانين استمروا في الاعتماد على البيتات الجاهزة، إلا أنه مع بداية فترة الثورة سنة 2011، بدأت تظهر تجارب موسيقية أكثر جدية تهتم بالإنتاج الموسيقي الفعلي.
برزت في هذه الفترة أسماء جديدة منها الرابر علي طالباب، الذي أطلق ألبومه "نسبح في فضاء مسموم" عام 2013، حيث حافظ على تأثيرات الأولدسكول لكنه طوّر بالإنتاج ونقله إلى مستوى جديد. ظهر ذلك في أغنية "المنظومة"، التي استخدم فيها سمبلة لصوت أم كلثوم، وأغنية "1772"، التي تميزت بدرام بيت محكم الإيقاع، وهي من أبرز سمات أسلوب الأولدسكول.
إنتاج إلكتروني للهيب هوب
ظهر في هذه المرحلة منتجون قادمون من خلفيات موسيقية متنوعة، مثل زولي والذي عرف باسم سواج لي، وتعاون مع أبيوسف في أولى إصداراته. خلفية زولي في الموسيقى الإلكترونية ساهمت في نقل صناعة البيتات إلى مستوى جديد، خاصة أنه امتلك الأدوات التقنية من برامج وآلات سبق أن استخدمها في إنتاجه الموسيقي. انعكس تأثير موسيقى الـ إي-دي-إم بشكل واضح في ألبوم "YFGYY" الصادر عام 2015، الذي لم يقتصر على إبراز تعاون زولي مع أبيوسف، بل كشف أيضًا عن دخول أبيوسف عالم الإنتاج الموسيقي. من جهته اشتهر أبيوسف بتطوير استوديو منزلي خاص في غرفة نومه، حيث غطى الجدران بفرشة السرير لعزل الصوت، مما مثّل بداية حقبة جديدة للإنتاج الموسيقي المحلي المستقل.
بين عامي 2015 و2017، كانت الساحة الموسيقية تعيش فترة تحوّل حاسمة أشبه بجسر يربط بين عصرين. في تلك السنوات، ظهرت أسماء مثل مروان موسى، الذي بدا وكأنه يقود سفينة تجريبية إلى عوالم غير مألوفة، بعيدًا عن شواطئ الأولدسكول الآمنة. استكشف مروان جنرات جديدة بالإنتاج ودخل إلى دائرة موسيقى الساوندكلاود راب، حيث كان الصوت حرًا وتجريبيًا بلا قيود، وقدم إصدارات كشفت عن هذه النقلة الإنتاجية مثل "سينمائي".
وسّع للجيل زد
مع نهاية 2017، تسللت موجة التراب القادمة من أتلانتا إلى المشهد المصري، حيث شكلت نقطة تحول كبيرة في عالم الإنتاج. هذا التغيير لم يكن محصورًا بالأصوات الجديدة فقط، بل امتد إلى الأدوات والبرامج الإنتاجية التي أصبحت متاحة للجميع، خاصة مع سهولة تعلمها وأنها غير مكلفة. استفاد جيل زد من عصارة تجارب جيل الألفية، ليُعيد صياغتها بما يتناسب مع طموحاته وأسلوبه الخاص. وكان لهذا الجيل حضوره القوي على منصات التواصل الاجتماعي دور كبير في انتشار هذه الموجة، حيث ساهمت تلك المنصات في وصول موسيقى هذا الجيل إلى جمهور أكبر، ليكون عام 2018 عامًا فارقًا في مشهد الهيب هوب المصري، لاسيما على صعيد الإنتاج.
تميزت هذه المرحلة بتقنيات إنتاجية محددة، أبرزها البيتات الثقيلة والبسيطة في آنٍ واحد، والتي تعتمد على أصوات آلات الطبل الرقمية مثل 808 Drum Machine. كما لعبت التأثيرات الصوتية مثل الريفرب والأوتوتيون دورًا كبيرًا في تشكيل طابع الأغاني. بالإضافة إلى ذلك، كان هناك تركيز على التصميم الصوتي باستخدام برامج إنتاج متقدمة مثل FL Studio و Ableton Live، التي وفرت إمكانيات دمج السامبلز بشكل إبداعي، ما أضاف لمسة فريدة إلى الإنتاج.
موجة التراب تجتاح مصر
برزت أسماء جديدة شكلت تجاربهم الأولى في 2018 عصب مشهد التراب المصري مثل ويجز ومروان بابلو وغيرهم الكثير، إضافة إلى ظهور مجموعة من المنتجين المتخصصين طوال السنوات الماضية مثل مولوتوف والوايلي وغيرهم. هذه الأسماء ساهمت في منح الإنتاج المحلي طابعًا خاصًا من خلال دمج تأثيرات التراب مع الثقافة المصرية، ليُعاد تشكيل الصوت المصري عبر تطويع بيتات التراب بما يتناسب مع أسلوب الشعبي والمهرجانات. يمكن القول أن هذه النقلة كانت نقطة مهمة في مسار جيل زد، حيث أضافوا لمساتهم الخاصة في عالم الإنتاج المحلي.
تمكنت هذه الأسماء من الوصول لشرائح كبيرة، مما جعل أصواتهم تتردد في كل مكان، من الحارات الشعبية إلى قاعات الحفلات الكبيرة. كما دخلت في هذه الفترة شركات التسجيلات وتكونت شرك جديدة متخصصة بالمشهد لدعم هذه الأسماء الصاعدة. هذا ومن الجدير بالذكر أنه مع عام 2020 كان المشهد جاهزًا لإعادة تشكيل نفسه مع دخول المزيد من الجنرات الفرعيّة مثل الدريل، بالإضافة إلى الأفروبيتس وتأثيرات اللو-فاي، والتي بدورها اعتمدت نفس الأساليب الإنتاجية.
التوقعات حول موسيقى جيل الألفا
في وقتٍ بدأ فيه جيل الألفية رحلته في عالم الهيب هوب المصري بشجاعة المبتدئ الذي يسعى للعثور على صوته بين الأدوات المحدودة، ورث جيل زد عصارة هذه التجربة وأخذها إلى مستوى آخر، وشهدنا كيف حولها إلى ظاهرة جماهيرية. قطف جيل الألفية ثمار الانفتاح على الإنترنت، واقتطف البيتات من هنا وهناك عبر الفلاشات والمنتديات، في الوقت الذي كان فيه جيل زد يتلاعب بالأدوات المتطورة ليعطي صوتًا مختلفًا يعكس مزيجًا بين تأثيرات التراب وحرفية الإنتاج بالاستفادة من تقنيات الأجيال السابقة.
لكن ما إن أطل علينا جيل الألفا سنة 2014، حتى بدأنا نشعر بحضورهم في الأفق، قادمين مع تكنولوجيا جديدة قد تغيّر معالم المشهد الموسيقي. في وقت تحاول فيه التوقعات فهم ما الذي سيحدثونه من تغيرات بفضل امتلاكهم أدوات الذكاء الاصطناعي وغيرها من التقنيات المتطورة، نتابع هذا الجيل في مشهد الهيب هوب المصري، وننتظر تلك الموجة الجديدة، لنسأل أنفسنا كيف ستكون موسيقاهم، وأي أبعاد ستأخذها أصواتهم في عالم مليء بالإمكانيات اللامحدودة؟