نعيد نشر هذا المقال وغيره ضمن ملف "50 عامًا على رحيل كوكب الشرق" بعد أن ظهر المقال الأصلي للمرة الأولى عبر موقع مجلة "المجلة" الزميلة ضمن المجموعة السعودية للإعلام والأبحاث لكاتبه أريج جمال.
_____________________________________________________________________
افتتح صوت أم كلثوم الإذاعة المصرية في انطلاقتها الأولى عام 1934. لكن ليس الإذاعة فحسب، ففي عام 1936، كان فيلمها الأول "وداد" من إخراج فريتز كرامب هو أيضا أول فيلم روائي طويل ينتجه استديو مصر، أو شركة مصر للتمثيل والسينما، التي أسسها الاقتصادي البارز طلعت حرب. بإلحاح من مجموعة من السينمائيين المصريين، اقتنع حرب بأهمية تدشين صناعة للسينما، على غرار بقية الصناعات، وبإلهام من النجاح الذي كان يحققه المطرب محمد عبد الوهاب مع المخرج محمد كريم لا سيما في "الوردة البيضاء"، قرر أن يكون أول فيلم روائي طويل من إنتاج الاستديو غنائيا، ومن بطولة مطربة شابة ذائعة الصيت آنذاك هي أم كلثوم.
في كتابه "بدايات السينما المصرية"، يقول المؤرخ والناقد السينمائي سامي حلمي: "الرغبة كانت كبيرة في أن يكون الفيلم الأول مختلفا ومضمون النجاح منذ البداية وهو ما حدث بالفعل عند العرض الأول، فقد حقق نجاحا منقطع النظير وجنى أرباحا كبيرة كما ازدادت نجومية وسطوع أم كلثوم وهو ما دفعها في ما بعد الى العمل في خمسة أفلام أخرى هي: "نشيد الأمل" 1937، "دنانير" 1940، "عايدة" 1942، "سلامة" 1945، و"فاطمة" 1947.
كيف كانت أم كلثوم في هذه الأفلام الستة التي شاركت في تمثيلها، في مرحلة مبكرة من تاريخ السينما المصرية؟ هل كان أداؤها مناسبا للأدوار التي قدمتها؟ وإن كانت أفلامها حققت نجاحات كبيرة في شباك التذاكر، كما يشير سامي حلمي، فلماذا لم تتوسع التجربة، وتقدم المزيد من الأفلام، حين اشتد عود السينما في الخمسينات والستينات والأخيرة تحديدا سنوات نشاطها الأكبر في مصر والعالم؟ مثل عبد الحليم حافظ، الذي صنعت السينما أيضا قسما معتبرا من نجاحه وشهرته، وخلوده حتى.
قبل تمثيلها في السينما ساهمت أم كلثوم بالغناء في أول فيلم مصري ناطق هو "أولاد الذوات" عام 1932، من تأليف وإخراج محمد كريم. وبعد اعتزالها التمثيل في السينما، غنت في فيلم "رابعة العدوية" عام 1963، من إخراج نيازي مصطفى.
"وداد" 1936
القصة والأغاني لهذا الفيلم كتبها أحمد رامي، وألحان الأغنيات للثلاثي الذي سيلازمها لاحقا في تلحين أغنيات أفلامها، محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، و"وضعها للسينما أحمد بدرخان"، كما نقرأ على التيتر. كان يفترض ببدرخان أيضا أن يُخرِج الفيلم، لكن المشروع انتهى بين يدي المخرج الألماني فريتز كرامب.
وداد هو اسم الجارية التي لعبتها أم كلثوم، وقبل أن نستغرب كيف توافق أم كلثوم، على لعب دور جارية، وهي التي لم تشأ أن تتخلى قط عن دور المطربة الرمز للوطن وللعروبة، كوكب الشرق والفن، نطالع عند الصحافي محمد عوض في كتابه "أم كلثوم سيرة الحب" تبرير أم كلثوم نفسها لهذا الدور، الذي تكرر في أربعة أفلام من أصل ستة قدمتها الى السينما، تقول: "لأن وداد جارية مغنية، بذلك يسهل إيجاد مناسبات للغناء، وبذلك لا تُحشر الأغاني حشرا... أو تأتي بتكلف".
يبدأ الفيلم بوصلة غنائية ورقص للجواري، لكن أم كلثوم لا تظهر مباشرة. ويروي أساسا قصة التاجر باهر (يلعب دوره أحمد علام)، العاشق لجاريته أو زوجته، ذات الصوت الساحر وداد، وهو يغدق عليها الهدايا بما يثير حسد الآخرين، إلى أن يقع التاجر في أزمة مالية عنيفة، يفقد على إثرها جاهه، وتضطر وداد إلى بيع مصاغها كله في سبيل إنقاذ حبيبها، لكن هذا لا يكفي. في لحظة ميلودرامية، تطلب وداد من باهر أن يبيعها، وبالثمن أن يعيد بناء تجارته، لعله يستطيع بعد ذلك استعادتها.
في ظهور من اثنين لأم كلثوم في الفيلم، كانت تغني، وتؤدي بوجهها كل انفعالات الأشعار التي تغنيها، أي كما أدت بكيانها كله أغنياتها طوال حياتها، وكما سنعرفها حتى في الحفلات التلفزيونية المصورة خارج الأفلام. لم تمثل أم كلثوم في "وداد"، بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلا قليلا، ويغالبنا شعور بأن فريتز كرامب تعامل معها كجوهرة يحتفظ بها لمشاهد الأغنيات، بينما ترك مساحة التمثيل الحقيقية والصراع الدرامي للرجال. في نهاية هذا الفيلم نرى مشاهد جميلة للنيل والمراكب، وتغني أم كلثوم أغنيتها الشهيرة "على بلد المحبوب وديني".
"نشيد الأمل" 1937
في هذا الفيلم تحرّر مؤقت من دور الجارية، والأزمنة القديمة، وعودة إلى الحاضر، وإلى المخرج أحمد بدرخان. عن قصة لأدمون تويما، وأغنيات من تأليف أحمد رامي، يأتي نشيد الأمل، الوحيد من بين أفلامها الذي لا يحمل اسم البطلة التي تلعبها أم كلثوم، وهو أيضا الفيلم الذي سيحدد بقوة ملامح الشخصية التي ستؤديها من ذلك الحين فصاعدا، مع تنويعات خفيفة، في أفلامها: صاحبة الصوت الجميل، عزيزة النفس الفاضلة، التي لها قدرة على التضحية والذود عمن تحبهم.
تتعرض آمال لظلم مستمر من زوجها السابق النذل إسماعيل (عباس فارس)، وترعى وحدها طفلتهما ليلى، وهي تتمتع بالكبرياء فترفض أن تمتد بالإحسان إليها يد الطبيب دكتور عاصم (زكي طليمات)، وهي إلى ذلك تتمتع بصوت جميل استثنائي، سيسمعه الطبيب النبيل بالمصادفة، فيكتشف موهبتها، ويقدمها بعلاقاته إلى عالم الفن، لتتغير حياتها من الفقر المدقع إلى الثراء والشهرة.
هذا الانقلاب في الحياة أيضا وكلمة السر إليه الشخصية الجادة والصوت الجميل، كان يماثل ما حدث في حياة أم كلثوم الحقيقية. في "نشيد الأمل"، يمكننا أن نستشف النجاح الذي حققه فيلمها الأول، إذ سرعان ما تتحول آمال إلى نجمة كبيرة للسينما، وتمثل أفلامها تحديدا في استديو مصر. هنا تغني أم كلثوم مجموعة من الأغنيات الجميلة من بينها "إفرح يا قلبي"، والأغنية الوطنية "يا شباب النيل".
من اللافت في هذا الفيلم أن معاني وفاء المرأة للحب امتزجت بطريقة غريبة مع التضحية بالمستقبل الفني. من أجل الاقتران بدكتور عاصم، أعلنت آمال قرارها اعتزال الغناء والسينما ومن دون حتى أن يطلب عاصم ذلك منها، في طرح فكري يخضع لنظرة المجتمع التقليدية لأدوار النساء المنزلية بصفتها أهم من أدوارها العامة، وأهم من تحقيقها لذاتها. هذا الطرح البعيد عن كل فكر نسوي، والمنسجم بالطبع مع سياق العصر، يتناقض مع حياة أم كلثوم نفسها، النجمة التي يتفق المؤرخون الفنيون، أنها كرست كل من حولها لخدمة مشروعها الفني، وليس العكس. كوكب الشرق التي لم تقدم أي تنازلات لأي كان حتى أصبحت رمزا للوطن الذي لا ينهزم، حتى حين ينهزم فعلا. لكن ربما في تلك المرحلة من حياتها، كانت أفكارها عن المجد مختلفة. أو لعلها كانت تجاري اتجاها فكريا عاما في عصرها، رأت نفسها على أي حال، استثناء منه.
"دنانير" 1940
من تأليف أحمد رامي، إخراج أحمد بدرخان، وإنتاج "شركة الأفلام العربية المتحدة". هذه المرة (عدنان ديرعطاني وشركاه)، يأتي "دنانير"، وتعود فيه أم كلثوم الى لعب دور الجارية البدوية التي يعثر عليها بالمصادفة الوزير جعفر (سليمان نجيب)، وكالعادة يسمعها وهي تغني في الصحراء، فيصحبها معه إلى بغداد، وهناك يعجب بصوتها هارون الرشيد، ويعرض على وزيره المخلص، الذي يصير محبا لدنانير، ضمها إلى جواريه، لكن الوزير يرفض إخلاصا لمحبوبته.
ومجددا تدور المكائد في القصر ضد الوزير جعفر، وينجح الأعداء في الإيقاع به إلى أن يحكم عليه هارون الرشيد بالإعدام. يبدو "دنانير" أقرب الى مسرحية غنائية منه إلى فيلم سينمائي، ومع ذلك فهو يشدد ثانية على صفة بارزة في الشخصية الفنية الكلثومية، وهي الإخلاص في الحب إلى درجة إنكار الذات. عند إعدام الوزير جعفر، تتشح دنانير بالسواد، وترفض حياة القصور، بل وترفض الحياة ذاتها، وتعبر صراحة أمام هارون الرشيد عن استعدادها للموت حزنا على الوزير. ولما يستعد السياف لقتلها عقابا على هذا الموقف، يوقفه الرشيد بعبارة دالة: "دعها يا مسرور... إنها رمز الوفاء".
صحيح أننا لم نسمع عن أم كلثوم أنها أنكرت نفسها من أجل أي محبوب، بل العكس قد يكون الصحيح، إلا أن الثابت أيضا أن أم كلثوم وضعت نفسها في خدمة كيان أكبر وأجل من البشر، تجسد في الفن والوطن. بعد سنوات من هذا الفيلم، سيموت جمال عبد الناصر، الزعيم الذي آمنت أم كلثوم بمشروعه القومي، والذي دعمت في عهده الجيش المصري بإيراد حفلاتها في ما يُعرف تاريخيا بـ"المجهود الحربي"، ويقال إنها عزلت نفسها في قبو فيلتها، وعاشت حدادا نفسيا عنيفا ظهر، رغما عنها في بعض تسجيلات أغنياتها.
"عايدة" 1942
هذا الفيلم عن قصة عبد الوارث عسر، ومن سيناريو وحوار فتوح نشاطي وعباس يونس. الأغاني من تأليف أحمد رامي، والإخراج لأحمد بدرخان، أما الإنتاج فلشركة "أفلام الشرق"، على أن المناظر التقطت في استديو مصر وكذلك تسجيل الصوت والتحميض.
بعد أن يكتشف محمد أفندي والد عايدة (يؤديه عسر نفسه)، سرقة أحد الفلاحين للقطن، يؤدي ما يعتقد أنه واجبه، ويقدمه الى عدالة أمين باشا مالك الأرض (عباس فارس) الذي يعتز كثيرا بهذا الوفاء. سوى أن الفلاح المطرود يعود ويقرر الانتقام بقتل محمد أفندي، وبالتالي تتيتم عايدة الشابة النجيبة، ليعهد برعايتها أمين باشا في قصره مع ابنه سامي المغرم مثلها بالفن (إبراهيم حمودة)، وابنته. لا يملك الباشا أن يمنع قصة الحب التي تنشأ بين ابنه سامي (ابن الحسب والنسب)، وبين عايدة التي تتمتع بصوت جميل، وتدرس في معهد الموسيقى، لكنه يعترض على الزواج، لأن عايدة تبقى بالنسبة إليه مجرد فلاحة بسيطة لا ترقى الى العائلة. لا يسلم الباشا بضرورة الفن، ولا حتى الحب، إلا بعد أن يشهد عايدة وسامي، وهما يؤدويان "أوبرا عايدة" في فقرة غنائية خاصة، يتضمنها الفيلم.
يضيف هذا الفيلم ملمحين إلى شخصية أم كلثوم السينمائية، لم يظهرا من قبل، وسيلتصقان بسيرتها لاحقا في الفن والحياة. الأول هو خفة الظل، والثاني حبها عمل المقالب وإلقاء النكات والقفشات. في حوار إذاعي معها، تعترف أم كلثوم بأنها كانت تلميذة مشاغبة في صغرها، لا تتوقف عن عمل المقالب في شيخها وزملائها أيام دراستها في الكتّاب، ما كان يجر إليها التوبيخ أحيانا. أما الملمح الثاني، فهو مواجهة أم كلثوم لتلك النظرة الطبقية إليها، لأصولها البسيطة الريفية، وهي التي ستختلط بحكم عملها بعلية القوم من الباشوات وحاشية الملك قبل الثورة. ربما تكون الأحوال تغيرت مع حركة الضباط الأحرار وعزل الملك، وربما بقي في نفس أم كلثوم شيء من شعور بقهر أو مذلة، رغم مرور السنين.
"سلامة" 1945
هذا هو الفيلم الوحيد الذي أخرجه السينمائي الشهير توجو مزراحي لأم كلثوم. لمرة وحيدة، تتخلى أم كلثوم عن أن يكتب لها أحمد رامي كلمات الأغنيات، لصالح بيرم التونسي الذي يكتب أيضا السيناريو وحوار الفيلم. بينما القصة نفسها من تأليف علي أحمد باكثير. تعود أم كلثوم الى دور الجارية، وتؤدي شخصية سلّامة التي تعيش في عصر الدولة الأموية، خادمة في بيت مليكها أبي الوفا (عبد الوارث عسر)، إلى جانب جارية أخرى ترافقها كصديقة طوال أحداث الفيلم وهي شوق (زوزو نبيل). ومثل العادة، لا تتوقف سلّامة عن الغناء، وتنظر بعين الحسد إلى قصر ابن أبي سهيل (حسين رياض)، حيث ترقص الجاريات ويغنين ولا ينشغلن بأعباء الخدمة والفقر، كحالها في بيت أبي الوفا.
يتمزق طموح سلّامة بين حبها لعبد الرحمن القس (يحيى شاهين)، الشيخ المتدين الذي يرفض في طبيعة الحال حبها للغناء ويراه من المحرمات، وبين طبيعة الدور المنتظر منها كجارية، لا تكتفي بالغناء إنما ترقص لمن يرغب أيضا. والرقص هنا لا يُنظر إليه، بين الجواري كفن، إنما كمحض إغواء بالأنوثة. وهذه النقطة، يمكن القول إن كلا من سلّامة وأم كلثوم قد تحفظا عنها.
ذلك أن عهد الغناء الذي يسبق أم كلثوم، عهد الطقطوقة، شهد إلى حد كبير شيوع نمط من غناء النساء رأته الصحافة "مبتذلا"، واحتوى أحيانا على كلمات "خليعة" حسب وصف ذلك العصر. تقول المطربة والناقدة الموسيقية د. فيروز كراوية في كتابها "كل ده كان ليه: سردية نقدية عن الأغنية والصدارة": "كانت أم كلثوم تبحث في بداياتها عن الاتجاه الذي تتحقق من خلاله بكل ملامحها. أن تكون مطربة وفلاحة محترمة. أي أن يُنظر إليها على خلاف معاصراتها من حيث أنها تقدم فنا جديدا لنوعها كامرأة. وأنها تحتفظ لموهبتها بالمكانة اللائقة وتحرسها ضد النظرة السلبية المحيطة بالفنانات".
كما أثبتت عايدة نفسها في الفيلم السابق أمام الباشا باشتراكها في غناء مسرحية "أوبرا عايدة"، تثبت سلّامة نفسها أمام عبد الرحمن القس، الرافض للفن (وهو يمثل بكل تأكيد تيارا محافظا كان أيضا يرى في غناء النساء نوعا من الابتذال)، بتلاوة آيات من القرآن تسحر السامعين، وتنقلهم فورا إلى الشعور بالإجلال. وفي الفيلمين، تحقق أم كلثوم مرادها، وتؤكد موهبتها.
في العودة إلى فيلم "سلامة" يجدر القول إن الحوار باللغة العربية، الذي كتبه بيرم التونسي أكثر حيوية وخفة ظل، من حوار فيلمها السابق والناطق بالفصحى أيضا "دنانير". من ناحية أخرى، تحتل أم كلثوم هنا مساحة أكبر من الأحداث دراميا مقارنة بأفلامها السابقة، وتمثل بطريقة أكثر طبيعية أيضا، مفسحة المجال لحبها للضحك والمزاح. سوى أن "سلامة" ينتهي فجأة بحرمان سلامة من حبيبها الشريف عبد الرحمن القس، ليُحكم عليها بمعاناة الأحزان حتى نهاية حياتها، مما يعيدنا مجددا إلى "دنانير".
"فاطمة" 1947
لعله أظرف أفلام أم كلثوم، وأقربها إلى عصرنا، وهو إلى ذلك آخر الأفلام التي قدمتها الى السينما. تعود أم كلثوم إلى أحمد بدرخان، الذي يضفي على الفيلم بعض السمات الواقعية مقارنة بأفلامها السابقة، من مشاهد لحياة الحارة المصرية، ومن وعي أكثر حدة بالفروق الطبقية، وتأثيرها الشديد الوطأة الذي لا يتجاوزه الغناء هذه المرة بضربة ساحر إنما يمكن التحايل عليه في المقابل ببعض التعاضد المجتمعي. علاوة على أن حياة فاطمة لا تنقلب هنا إلى الأفضل بين ليلة وضحاها، بل إن سعادتها أقرب الى حلم قصير يتبعه كابوس طويل يصنعه الحبيب نفسه فتحي (أنور وجدي). هذا التغيّر الكبير في فلسفة الفيلم، ربما يرجع إلى دور مصطفى أمين مؤلف القصة، وهو الذي لطبيعة عمله الصحافية، أقرب الى الناس، منه إلى حسابات الفن، على النقيض من فناني السينما الآخرين آنذاك.
فاطمة هي ممرضة خدومة ومحبوبة وسط أبناء حارتها "الأمراء"، تُطلَب ذات يوم لتمريض أحد الباشوات (سليمان نجيب)، في الفيلا الخاصة به، وهناك تتعرف الى شقيقه الشاب الوسيم فتحي، تنجذب إليه، ويحاول هو الإيقاع بها، فترفض فاطمة الخضوع إليه، وتشير بموقفها هذا إلى نظرة الطبقة المتوسطة المحددة لشرف النساء.
مع ذلك يتمكن فتحي من خداع فاطمة عبر عقد للزواج العرفي، ويعدها بالاعتراف بأولاده منها، ويبدو من الفيلم أن المجتمع المصري آنذاك كان يبدي تسامحا مع هذا النمط من عقود الزواج، أكثر مما يفعل اليوم. وينقلب فتحي طبعا على وعوده تلك كلها. لتعيش فاطمة من بعد فصلا طويلا من الأسى والمعاناة، لا يواسيها فيه إلا أسرتها وعائلتها الكبيرة من أهل الحارة. ومع هذا الميل الميلودرامي في الفيلم، إلا أن بدرخان يضع لمسات كوميدية هنا وهناك وشخصيات خفيفة الظل، بالإضافة إلى مشاهد ذروة جذابة دراميا. تغني أم كلثوم هنا بعض أجمل وأشهر أغنياتها منها "يا صباح الخير"، و"الورد جميل"، و"حقابله بكرة"، و"أصون كرامتي"، و"نصرة قوية".
في آخر الأفلام التي مثلتها، تقدّم أم كلثوم صورة شائعة وأحادية للمرأة المصرية، بوصفها غرة، مسلوبة الإرادة، مستكينة، خاضعة للأقدار القاسية حتى النهاية، على الرغم من أن فاطمة لم تبدأ هكذا. صورة لا تزال تتجسد في أعمال فنية وتستدر عطف المتفرجين. الغريب فقط أنها صورة لا تشبه أم كلثوم ولا حياتها من قريب أو بعيد. فهل يحتمل أن يكون هذا أحد أسباب زهد أم كلثوم في السينما؟ أنها أدركت مثلا أن لعبة التمثيل في السينما ستفرض عليها أن ترتدي شخصيات لا بد أن تتفاعل الجماهير معها، وإن كانت تخاصم الصورة التي أرادت هي صناعتها لشخصها، أو التي صنعتها فعلا وساهمت فيها عوامل عديدة ابتدأت من موهبتها نفسها.
لعله أحد الأسباب. أما السبب المؤكد، ولا جدال فيه، فهو أن أم كلثوم، أرادت لاحقا، مع صعود أسطورتها وتأثيرها على جماهير العالم العربي، أن تتفرغ لمشروعها الغنائي، وللمشروعات التي اتصلت به، كنشاط المجهود الحربي. يقول فواز طرابلسي في كتابه "إن بدك تعشق": "في درك هزائمها، عندما كانت الجماهير العربية تشعر أنه لم يبق لها شيء، بقي لها صوت أم كلثوم". ترى ماذا كان في وسع السينما أن تقدم لها، أكثر من ذلك؟