ثوّر الطاهر القيزاني مجال الموسيقى التصويرية في تونس وارتبط اسمه بالأعمال الناجحة التي ترسخت في أذهان التونسيين، كما فرض الاعتراف محليًا بتعيينه مؤخرًا مديرًا للدورة 23 لمهرجان الأغنية التونسية في تتويجٍ متأخر لمسيرته.
يستمر حضور الطاهر اليوم في ذاكرة التونسيين بجانب صنّاع العمل الدرامي وأسمائه الأبرز مثل المخرج الراحل صلاح الدين الصيد وكاتب السيناريو علي اللواتي والممثل الراحل فتحي الهداوي. فكيف صنع لنفسه هذه المكانة؟
بداية الألفية والعودة للتراث
حين بثّ مسلسل "عودة المنيار" في رمضان 2005، فوجئ الجمهور التونسي بالموسيقى التصويرية والجينيريك للعمل التي حضر فيها صوت المزود بجانب عناصر أخرى من الموسيقى البدوية والتراثية، في سابقةٍ في تاريخ الموسيقى التصويرية في تونس كان بطلها الطاهر القيزاني.
تسيّد الطاهر الألفينات بامتياز في تلك الفترة من خلال تلحينه لأغلب المسلسلات الناجحة طيلة عقدٍ من الزمان مثل منامة عروسية (2000) وقمرة سيدي المحروس (2002) ودروب المواجهة (2003) وحسابات وعقابات (2004) وعودة المنيار (2005) والليالي البيض (2007) إضافةً إلى مساهمات أخرى خارج مجال الدراما.
في الحالة التونسية التي أسّس لها الطاهر القيزاني وآخرون، كانت الموسيقى التصويرية عاملًا أساسيًا في استمرار الأعمال الدارمية في ذاكرة الناس بجانب نجاح بعض الأدوار الملفتة لشخصيات أيقونية أو الحبكة المتقنة. استعاد الطاهر القيزاني أصوات نوستالجية من ماضي التونسيين محرّكًا حنينهم إلى أزمنة قديمة. تحولت موسيقى مسلسل "منامة عروسية" على سبيل المثال إلى صوتٍ للعالم البيتوتي واختزلت أجواء الألفة والحميمية للعائلة المجتمعة في الجلسات الرمضانية حول التلفزيون.
على صعيدٍ آخر، استفادت ألحان القيزاني من الركود الذي ضرب الإنتاج الدرامي في القنوات الرسمية خارج الفترات الرمضانية، إذ تحوّل ماراثون إعادة بثّ المسلسلات المتكررة إلى تمرين تونسي يومي لإعادة استهلاك الأعمال الدرامية القديمة، ما أحيا الموسيقات التصويرية لتلك الأعمال ورسّخها في أذهان التونسيين لتصبح ملازمةً لنجاحها.
مغامرات صوتيّة مظفرة
يوظف القيزاني عناصر متنوعة من الموسيقات الشعبية والبدوية والتراثية في أعماله. يبدو في ذلك وكأنه يتحرك في الذاكرة السمعية التونسية ويفكك عناصرها ثم يآلف بينها لوضع الموسيقى التصويرية للأعمال الدرامية التي يشارك فيها. يلتقط ما رسخ فيها من أصوات ويعيد تدويرها في قوالب لحنيّة جذابة وتوزيع أوركاسترالي متقن.
تجرّأ الطاهر القيزاني على مغامرات صوتية ناجحة، فكان سبّاقًا في استعمال المزود في "عودة المنيار"، خاصة في ظل عزوف نسبي للإعلام الرسمي عن بث المزود، كما أضاف تأثيرات تركية في مسلسل "حسابات وعقابات" من خلال جمل الساز في موسيقى الجينيريك وطريقة التنفيذ والأداء.
وصولًا إلى "قمرة سيدي المحروس" التي مثّلت إحدى نجاحاته الضاربة، بثّ القيزاني روحًا صوفية في المسلسل الذي سلّط الضوء على مدينة تونس تحت الاحتلال الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية، والحياة اليومية للأهالي حول وليّ متخيل يدعى سيدي المحروس. استوعبت موسيقى المسلسل الأوجه المختلفة والممزقة للمدينة خلال فترة الاستعمار مع توظيف عناصر صوتية توحي بأجواء تونس خلال الأربعينيات، وفي تكامل متقن مع رؤية المخرج صلاح الدين الصيد وعالم علي اللواتي الذي وضع السيناريو.
أشار القيزاني في ظهور إعلامي سابق إلى أن موسيقى المسلسل كانت ترجمةً لجغرافيا ذلك الوقت. تحيلنا موسيقى الشارة والمقدمة الإيقاعية التي احتوت على طابع صوفي صرف إلى مقام الولي الصالح سيدي المحروس، ثم تنتقل بنا الفواصل اللحنية والإيقاعية إلى عالم المدينة العربي (أي المدينة القديمة) قبل أن يستحضر القيزاني صوت الأورغن القديم والأكورديون الفرنسي الذي يستدعي الطابع الصوتي للقسم الأوروبي من مدينة تونس خلال الاستعمار.
عرّاب نجاحات
بجانب تلحينه لأكثر من 300 أغنية، اتجه القيزاني نحو العروض الفنية الكبيرة مثل عرض "خرافة على سوسة" و"اللّارية" المستوحى من الموسيقات الشعبية التونسية. من ناحية أخرى، احتضن العديد من الفنانين في بداياتهم وكان عرّابًا لنجاحات بعضهم مثل مرتضى فتيتي الذي بدأ معه كموجّه ومنتج تنفيذي. كما راهن على صعود الأصوات المغمورة وتعامل مع أسماء أخرى مثل الباشا وياسين عزيّز وأماني السويسي، بالإضافة إلى تعاوناته السابقة مع أسماء قديمة في المشهد مثل سنية مبارك ونوال غشام وكريم شعيب.