يرى فراس أبو فخر من فريق يونيفرسال ميوزك بفرعها في الشرق الأوسط أن شهر رمضان لم يعد "فترة راحة لصناعة الموسيقى كما اعتدنا أن نصفه" وذلك في معرض تعليقه على حجم الإنتاج الموسيقي الضخم خلال الشهر خلال السنوات القليلة الماضية.
الحقيقة أن الموسيقى لم تكن منفضلةً عن رمضان منذ بدايات التلفزيون الأولى، بل كانت جزءً لا يتجزأ من الذاكرة الفنية للشهر من خلال تترات المسلسلات والفوازير. كان رمضان شهرًا يطل من خلاله موسيقيون بحجم عمّار الشريعي وسيد مكاوي وشعراء مثل صلاح جاهين وسيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودي وأسماء فنية مثل نيللي وشريهان وعلي الحجار وأصالة.
لكن المؤكد أننا لم نشهد شيئًا بحجم "الانفجار" الموسيقي المرتبط بالأعمال الدرامية والإعلانات الغنائية حاليًا، والذي تحول معه رمضان إلى موسم كامل من النشاط الموسيقي للفنانين وشركات الإنتاج.
كيف وصلنا إلى هنا؟ تحدثنا مع بعض من أهم صناع وشركات الموسيقى في المنطقة حول سمات ومحطات هذا التحول الهائل ورصدنا ظواهر شكلّت وغيرت مشهد أصوات رمضان منذ الثمانينيات وحتى يومنا هذا.
أكثر من أغاني تترات: الموسيقيون "جزء من الحبكة"
برزت خلال السنوات القليلة الماضية فرص جديدة لترويج أعمال موسيقية ناجحة خلال شهر رمضان من خلال ربطها بأهم المسلسلات الدرامية دون أن يقتصر ذلك على التترات. يشرح لنا وسام شرتوني، الشريك المؤسس لـ Glava Holding (وتري وميوزيك إز ماي لايف): "أصبح بإمكان الفنانين إطلاق أعمال مع فرصة نجاح كبيرة، كونها مرتبطة بمسلسلات شهيرة. بالإضافة إلى ذلك، أتاح الموسم إمكانية إحياء الأغاني القديمة من خلال إدراجها في المشاهد، مما يمنحها حياة جديدة داخل سياق المسلسلات."
ولعل أبرز دليل على ذلك هذا العام هو الحضور الكبير لأغاني ألبوم "نسّاي" لشيرين عبدالوهاب في مشاهد مسلسل "اخواتي"، وهو ما أدى إلى زيادة كبيرة في معدلات الاستماع لأغانيه رغم مرور سبعة أعوام على صدورها وعودة شيرين إلى صدارة قائمة بيلبورد عربية هوت 100.
كما تلاحظ كريمة ضمَير من فريق يونيفرسال ميوزك في الشرق الأوسط نموًا مطردًا في عدد وطريقة مشاركة نجوم الغناء في الأعمال الدرامية، وتضيف: "أصبح المغنون والمؤدون جزءًا لا يتجزأ من حبكة هذه المسلسلات…كما لا يمكننا أن نغفل عن الأدوار المتزايدة لفناني الراب كممثلين." وتشير في ذلك إلى أسماء مثل أبيوسف الذي ظهر إلى جانب أحمد مكي في مسلسل "الغاوي" في الموسم الرمضاني الحالي، وشاهين الذي تابعناه في مسلسل "لانش بوكس" في رمضان 2024.
الإعلانات بدلاً من الفوازير
ارتبط موسم رمضان بالفوازير منذ الثمانينيات وحتى وقت قريب. قدمت نيللي عددًا من الأعمال البارزة مثل "الخاطبة" و "عروستي" تعاونت فيها مع صلاح جاهين، في حين قدم سمير غانم أيضًا شخصية "فطوطة" الشهيرة ومعها تتر طويل كوميدي من تلحين سيد مكاوي بقي عالقاً في الذاكرة إلى الآن. في التسعينيات، تسيّدت شريهان المشهد بأعمال مثل "حاجات ومحتاجات" التي كتبها سيد حجاب ولحنها مودي الإمام بأسلوب مزج بين الإيقاعات السريعة والتوزيع الأوركسترالي الحيوي.
غير أن نجم الفوازير ومكانتها في المشهد الموسيقي الرمضان بدأ في الأفول مع مطلع الألفية الجديدة قبل أن تغيب بصورة شبه كاملة لتحل محلها أغاني الإعلانات. مؤخرًا، لم يعد الأمر قاصرًا على التسويق المباشر، بل أصبح من المعتاد أن تلجأ الشركات لتصوير أغاني بستايل الفيديو كليب بتكاليف باهظة دون أن يكون اسم المنتَج ملئ السمع والبصر خلال الأغنية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل استطاعت بعض الإعلانات النجاح كعمل غنائي مستقل مثل "أسمر عيونه سمرا" و"رمضان في مصر حاجة تانية" لحسين الجسمي، والذي أصبحت أعماله الرمضانية ضيفًا شبه دائم على قوائم بيلبورد عربية.
هذا العام، رصدنا تقديم عشرات من نجوم الصف الأول لإعلانات جديدة مثل الجسمي وشيرين عبد الوهاب وإليسا وتامر حسني وأنغام وويجز وصولًا إلى أحمد سعد الأكثر نشاطًا، والذي قدم سبعة إعلانات مختلفة.
يشرح لنا المنتج محمد جابر، نائب رئيس مجلس إدارة مجموعة مزيكا ما يصفه "بالتحول الكامل" في اعتماد الإعلانات على الأغاني قائلًا: "بعض الشركات حتى بقت تقلل من ذكر اسمها داخل الأغنية، وتخليها مناسبة أكتر للجو العام، بحيث تقدر تعيش بعد رمضان وكأنها أغنية عادية."
وأضاف جابر: "وفعلًا، لما الناس تشغلها في تجمعاتهم أو حتى في الأفراح، مش بس بتفضل مرتبطة بالعلامة التجارية، لكن كمان بتتحول من مجرد إعلان إلى جزء من الثقافة."
التتر هو الكنج
رغم كل ذلك، يحتفظ التتر بدوره كنافذة رئيسية للأعمال الموسيقية في رمضان منذ أكثر من أربعة عقود. ففي ثمانينات القرن الماضي، تحولت التترات إلى عنصر أساسي في المسلسلات، مستفيدة من شراكات فنية مميزة كتلك التي جمعت سيد حجاب بعمّار الشريعي. ميّز أعمال حجاب وأبرز كتاب تلك الحقبة توفر الوقت لقراءة السيناريو قبل كتابة كلمات التتر. يظهر هذا في تتر "ليالي الحلمية" الشهير الذي كتب حجاب كلماته ولحنه ميشيل المصري (العازف السابق في الفرقة الماسية) وغنّاه محمد الحلو عام 1987.
غير أن التسعينيات كانت بلا منازع بمثابة العصر الذهبي للإبداع في التترات المصرية والسورية على حد سواء. ففي مصر، شهدنا دخول عدد من نجوم الشعر إلى عالم الدراما التلفزيونية، مثل أحمد فؤاد نجم (زيزينيا) وعبدالرحمن الأبنودي (ذئاب الجبل). وانضم إلى الشريعي (أرابيسك) ملحنون بحجم راجح داوود (هوانم جاردن سيتي) وحسن أبو السعود (لن أعيش في جلباب أبي)، في حين سطع نجم علي الحجار بأداءه لتترات لا تزال حية في ذاكرة المستمعين مثل "بوابة الحلواني" و "المال والبنون".
كان علي الحجار من بين أبرز الفنانين المصريين الذين ارتبط اسمهم بتترات المسلسلات في تلك الحقبة، فغنى عدداَ من الأعمال المؤثرة مثل مسلسل "بوابة الحلواني" (الذي شارك في تمثيله أيضاً) و"المال والبنون".
في سوريا، شكل مسلسل "نهاية رجل شجاع" الذي عرض عام 1994 علامة فارقة في تاريخ الدراما الرمضانية هناك، حيث حمل إنتاجًا ضخمًا وتوجَّه لأول مرة نحو بناء موسيقى تصويرية كاملة ألفها الملحن طارق الناصر. تحت عنوان "يا روح لا تحزني"، كانت الموسيقى جزءًا أساسيًا من هوية المسلسل، ونجحت في نقل أجواء العمل المشبعة بالتوتر والحزن.
كما شهدت الدراما السورية أيضا شراكة مزدهرة بين المخرج حاتم علي والمؤلف الموسيقي طاهر مامللي امتدت لعشرات الأعمال. مع كل تجربة، بحث طاهر مامللي عن مدخل موسيقي ملحمي للعمل، عاد لأرشيف شعراء المنطقة، وبحث عن الصوت الأنسب لتقديم رؤيته، ليعتمد على أسماء مغمورة ومواهب محلية، كما سمعنا في تترات "الفصول الأربعة" و"بقعة ضوء" و"ذكريات الزمن القادم".
دخول نجوم البوب وهيمنة السوق التجاري
يمكن النظر لتترات مسلسلات مثل "صلاح الدين الأيوبي" في 2002 و"قاسم أمين" في 2003 و"نزار قباني" في عام 2005 بوصفها نقطة تحول بدأت شركات الإنتاج بعدها التعاقد مع أبرز نجوم البوب لغناء شارات المسلسلات. غنت الفنانة أصالة تترات جميع هذه المسلسلات، وأدت فيها كلمات شعراء طبعت أثرها في وجدان الجمهور العربي، ونجحت في تحقيق نجاحات تجاوزت المسلسل واكتسبت أبعادًا وطنية عاطفية يتردد صداها حتى اليوم.
في تلك الحقبة تغير شكل الموسم الرمضاني في مصر بسبب تزايد عدد المحطات والقدرة الإنتاجية. حاول بعض شعراء الأغنية الحفاظ على روح التسعينيات، كما فعل أيمن بهجت قمر في تتر مسلسل "عباس الأبيض في اليوم الأسود" عام 2004، التي لحنها محمود طلعت وغناها مدحت صالح. غير أن متطلبات السوق فرضت واقعًا جديدًا، فلم يعد بإمكان الكتاب قراءة السيناريو بالكامل، بل واضطر البعض لتأليف التتر استنادًا على عنوان العمل فقط، وهو ما جعل بعض التترات تبدو بعيدة عن محتوى المسلسل الدرامي الفعلي، مثل مسلسل "الكابوس" لغادة عادل.
دخلت حينها أسماء جديدة في عالم غناء التترات مثل هشام عباس في مسلسل "يتربى في عزو" 2007 من ألحان محمود طلعت. في 2010، قدم الرابر والممثل أحمد مكي تجربة مختلفة، حيث قرر كتابة التتر بنفسه كونه الشخصية الأساسية في المسلسل، ليحقق نجاحًا كبيرًا كأول تتر من جنرا الهيب هوب بلهجة صعيدية مميزة.
في الخليج، سجلت نوال الكويتية أغاني المسلسلات العام تلو الآخر بشكل شبه منتظم، مثل تترات "الرحى" و"الدريشة" و"دمعة عمر"، فيما أثبتت أسما لمنور تمكنها من تقديم الأغنية الخليجية بالتزامن مع صعود نجمها في المنطقة مع عشرات التترات مثل "عيون الحب" و"سارة" و"أحببتك منذ الصغر".
في الوقت نفسه كانت مسلسلات البيئة الشامية تحصد مزيدًا من الجماهيرية، من خلال أعمال مثل مسلسل "باب الحارة" الذي عرض للمرة الأولى عام 2006 واستمر لأكثر من عشر سنوات حفظ خلالها الجمهور العربي أغنية المقدمة ومطلعها "اللي بده يتحدى/ هي الحارة من قدا" بصوت المنشد عدنان الحلاق وكلمات أسامة السعود وألحان سعد الحسيني.
الشعبي والمهرجانات والوجوه الجديدة
مع منتصف العقد الثاني من الألفية، دخلت الأغاني الشعبية والمهرجانات بقوة إلى ساحة الموسيقى الرمضانية، فبات الجمهور يستمع لتترات يقدمها حسن شاكوش وبوسي في مقدمات الأعمال الدرامية. في عام 2020 اعتمد مسلسل "بـ 100 وش" لأول مرّة على تتر مهرجان، وكان مهرجان "مليونير"مع المدفعجية بمشاركة البطلة نيللي كريم.
ثم تابعنا في رمضان 2024 و2025 النجاح المدوي لتترات مطرب المهرجانات عصام صاصا، لتكون من بين التترات القليلة التي تستطيع الوصول قوائم بيلبورد عربية، مثل "اتنين بمقام ملايين" لعصام صاصا من مسلسل "مسار إجباري" الذي استطاع الوصول إلى المراكز العشرة الأولى على قائمة هوت 100 العام الماضي، وتتر "ولاد الشمس" الذي كان أول تتر يصل للقائمة هذا العام.
كذلك استمر نجوم البوب في تقديم التترات، ولكن بأسلوب جعل تلك الأعمال أقرب إلى الأغنية المنفصلة القابلة للانتشار على المنصات.
دخلت أسماء جديدة في المشهد الشامي لتشارك في الموسم بغزارة، مثل زياد برجي وناصيف زيتون ورحمة رياض وعبير نعمة، كما دخل النجم الشاب الشامي للمرّة الأولى هذا العام إلى عالم التترات مع مسلسل "تحت سابع أرض". عكس ذلك توجه الشركة المنتجة للاستفادة من شعبية الشامي الطاغية، بعد لجوئها سابقًا لفنانين لا يتمتعون بنفس الجماهيرية رغم موهبتهم.