"أكره أنني أرتاح أكثر لاستعمال اللغة الإنجليزية/ لكنني أقول لنفسي كل يوم أقول إن هذا امتياز/ يمكّنني من الحديث عن الطريقة التي يعيش بها شعبي للعالم/ وسأفعلها على هذا الإيقاع لأنني أعلم أنك تريد الاستماع"، يفتتح سانت ليفانت بهذه الكلمات أولى أغاني ألبومه الجديد "ديرة" ليُعلن عن الرسالة التي يحملها بألبومه، حيث يوظف صوته لنقل حكايات الناس في غزة. يفكك في الجملة ذاتها البنية اللغوية المعقدة التي يستخدمها في أغانيه، والتي يمزج فيها بين اللغات العربية والإنكليزية والفرنسية.
يأتي ذلك في الأغنية الافتتاحية "On This Land" التي يتعاون فيها مع فرقة سول، حيث تبدأ الألبوم بأبيات وطنية تُحيلنا إلى العديد من الأناشيد القومية العربية، وتنقل صوت أهالي غزة المتمسكين بأرضهم: "سوف نبقى هنا كي يزول الألم/ سوف نحيا هنا سوف يحلو النغم/ موطني موطني/ موطني ذا الإباء/ موطني موطني/ موطني يا أنا". يخلق سانت ليفانت مع الأغنية الأولى حالة عاطفية تجبر المستمعين على تلقي الألبوم بتعاطف شديد، ليقترن الصوت بمشاهد الحرب والدمار التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار، ويبدو كصوت عاطفي يعبّر عن أبناء المدينة التي سُلطت عليها الأنظار والبنادق مؤخرًا، وينقل الحكايات والأفكار التي يتم إغفالها دائمًا.
لإدراك خصوصية ألبوم "ديرة"، لا بد بالبداية من فهم شخصية سانت ليفانت وتكوينه الثقافي المعقد والمتشعب. ينحدر المغني والرابر سانت ليفانت، أو مروان عبد الحميد، من أصول فلسطينية وجزائرية فرنسية، ويعيش حاليًا في الولايات المتحدة الأمريكية التي انتقل إليها بعدما وُلد في القدس ونشأ في غزة. أثّر كل ذلك بشكل كبير على هويته الموسيقية والفنية، إذ اقترنت تجربة سانت ليفانت الموسيقية بغزة قبل حتى أحداث 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، عبر إصدارات ألبومه القصير الأول "From Gaza, With Love". وفي ألبوم "ديرة" عاد إلى مدينة الطفولة ليستكمل حكايات الحب والحياة اليومية بعد أن تحوّلت شوارع غزة ومبانيها إلى ركام، ليرصد تأثيرها على حياته ومسيرته الفنية.
تعكس الحكايات الشخصية التي يرويها سانت ليفانت تفاصيل الحياة الغزاوية العامة، ليقودنا بالنهاية إلى مشاهد الدمار والتهجير القسري. نلمس ذلك بوضوح في الأغنية الرئيسية "ديرة" التي حمل الألبوم اسمها، والتي تعاون فيها سانت ليفانت مع الرابر الغزاوي إم سي عبدول. يأتي اسم "ديرة" من اسم الفندق الذي بناه والد سانت ليفانت عام 2000 عندما انتقلت العائلة إلى غزة، وقد شهد الفندق العديد من المآسي قبل أن يتعرض للدمار الكامل قبل عدة أشهر، ليمثل الغناء عن "ديرة" اليوم احتفالًا بالحياة اليومية الفلسطينية ومعالم غزة من خلال مرجعية شخصية. تعكس الأغنية العواطف المرتبطة بالوطن والمنفى، وتظهر أهمية الثقافة الفلسطينية. وفي ثاني أغنية أصدرها سانت ليفانت من الألبوم "5am in Paris"، يعبّر عن التشتت الذي يشعر به ما بين عدة ثقافات وهويات، ما يضفي على الألبوم طابعًا عالميًا وشخصيًا في آن واحد.
تحمل معظم أغاني الألبوم رسائل قوية حول الهوية والنزوح والحب، ما يجعله ليس فقط تجربة موسيقية، بل بيانًا فنيًا يعبّر عن الأمل والمرونة. وفي أغاني مثل "الله يحميكي" و"Let Her Go" يعبّر سانت ليفانت عن الصراع الداخلي الذي يعيشه الفنان بين الرغبة في العودة إلى الوطن والواقع القاسي للنزوح والمنفى، ليقدّم تعبيرًا عن التحدي والأمل والشعور بالذنب الذي يرافق سانت ليفانت وهو يشاهد مدينته تتعرض للدمار.
يشترك سانت ليفانت بالإنتاج الموسيقي في بعض الأغاني مع عدد من الأسماء مثل عبد الله مسوس وخليل شيرادي، حيث يجمعون بين تأثيرات الأفروبيتس الهادئة والألحان الشمال أفريقية وتأثيرات البوب لخلق مزيج موسيقي فريد. يمحون الحدود الفاصلة بين موسيقى الهاوس الفرنسية والراي الجزائري، ليوظفوها كأرضية يفرشون فوقها إضافات من الموسيقى الشعبية الفلسطينية.
يحرص سانت ليفانت في ألبوم "ديرة" على التعاون مع فنانين بارزين من مختلف المشاهد الموسيقية ليعمق الأثر الموسيقي، وينقل الحكاية الخاصة إلى مستوى تشاركي ويجعلها أكثر شمولية، كتعاونه مع الشاب بلال في "Let Her Go"، والتعاون المميز مع الفنانة العالمية كيلاني في أغنية "الله يحميكي"، بعد أن رأيناها في الأشهر الماضية ترتدي الكوفية الفلسطينية وتتحدث عن القضية عبر كافة منصاتها المتاحة. بالمقابل، يتضمّن الألبوم أغاني تظهر التحدي والعاطفة التي يمرّ بها سانت ليفانت، ليعكس أيضًا الجانب الرومانسي في بعض الأغاني التي يؤديها منفردًا، مثل "Forgive Me" و"Galbi"، والتي تُغني ألبوم "ديرة" بالتفاصيل ليكون قصيدة مرئية وسمعية تعبّر عن الحب والفقدان والهوية.