تعود المغنية ومؤلفة الأغنيات والمنتجة الموسيقية ندى الشاذلي في عام 2025 إلى المشهد الموسيقي بأغنية "كعبي عالي"، لتشارك مع جمهورها جزءًا جديدًا من عالمها المشوق الذي شيدته في السنوات الأخيرة، ويعود معها صوتها المؤثر الذي يبدو وكأنه آتٍ من عالم آخر، يتمايل بين الأزمان والطبقات الموسيقية.
على مر السنوات، اشتهرت ندى بمزجها بين الأصوات التجريبية، والتأثيرات العربية التقليدية، والأنماط المرتجلة، والتوزيعات الطليعية. ومع ألبومها الجديد "لاقيني تاني" المنتظر صدوره هذا الصيف، تعيد ندى تأكيد مكانتها كقوة موسيقية رائدة تسافر بين ماضي ومستقبل الموسيقى العربية. وفقًا للبيان المرافق لألبومها الجديد، فإن "كل تراك هو عبارة عن صورة مصغرة، تلتقط لحظات عابرة وحيوية من التأمل"، في حين أن المشهد الصوتي للألبوم "يخلق تفاعلًا ديناميكيًا بين الارتجال المصري الكلاسيكي والتلاعب بالصوت والإيقاعات الإلكترونية".
برزت ندى كفنانة رائدة في ساحة موسيقى الإندي والموسيقى التجريبية منذ عام 2013، واستمرت منذ وقتها في كسر حواجز الصوت والزمان والمكان. سرقت أغنية "شوربة رصاص" التي تعاونت فيها مع محمد شفيق قلوب محبي هذا اللون الموسيقي، وسرعان ما لاقت استحسان شريحة أوسع من الجمهور عند استخدامها في مسلسل "مدرسة الروابي للبنات" (2021) على منصة نتفليكس.
أيقظت ندى الشاذلي عظماء وأساطير الموسيقى العربية من سباتهم في ألبومها الأول "أهوار" (2017). كنت قد سمعت أغنيات الألبوم عدة مرات على مر السنين، كان أولها خلال حفل مباشر في مركز "درب 1718" عام 2013. وأكثر ما لفت نظري في "أهوار" كان صوت ندى المؤثر، وكأنه رثاء وسحر في آنٍ معًا، يناجي وينادي ويعم الهواء حوله والفضاء فوقه. تفتتح ندى الألبوم بأغنية "أفقد الذاكرة"، فتغني: "أفقدُ الذاكِرة، وأرفع المستقبل، وأمشي تحتَهُ، فأغرق في بحر لُعاب المجانين"، وكأنها تحذّر السامع وتهيّئه لما ينتظره في هذا العالم الجديد الذي خلقته في ألبومها مع سام شلبي وموريس لوقا من ثلاثي أقزام شرق العجوزة (مع آلان بيشوب)، اللذين تعاونا مع ندى في التلحين والتوزيع.
لا تقتصر أعمال ندى على استكشاف حدود الصوت والموسيقى، فهي تعيد أيضًا عقارب الساعة الموسيقية إلى الوراء، وتستمد الوحي من التاريخ في رحلتها التجريبية. وكما يشير اسم الألبوم، تنتقل أغنيات "أهوار" بين أهوار متغيرة، وتنقل معها المستمع إلى حلم يسافر فيه صوت ندى عبر التضاريس المختلفة. ففي أغنية "برزخ"، تعيد ندى إحياء صوت كمان عبد الحي حلمي المنسي في طيات الزمن من خلال عينة من تسجيل له تتكرر في الخلفية، وكأن شبح صوته يرافق الأغنية. وإذ يغوص المستمع بألحان الساز التأملية، تغني ندى بصوت منخفض واثق مهيب يقاطع رحلة التأمل: "قوم شوف حالَك وما لي أنا / جَمَّع ذكرياتك أو ارميهم في الهَوى / هِنا وعندي كل حاجة إنما/ يَقيني دايخْ و شكّي اتهرى"
لعل هذا التفاعل بين الماضي والحاضر هو أكثر ما يميز موسيقى ندى الشاذلي. فسواء في الإنتاج أو في الغناء، تفكك ندى نسيج الموسيقى العربية التقليدية وتعيد تركيبه على شكل ألحان وموسيقى تحافظ على الصوت العربي الأصيل وتتزين في الوقت عينه بإبداعات موسيقية جديدة.
نرى ذلك بوضوح في جودة أدائها الصوتي وفي لفظها لمخارج الحروف العربية، مستلهمةً من فناني الأجيال السابقة، فتأثرها واضح بالقدرات الصوتية الجبارة لمنيرة المهدية، وبالموهبة الارتجالية لعبد اللطيف البنا، وبالتكرارات الآسرة في الموسيقى الشعبية في الجزائر، والتي تتعدى جميعها كونها مصدر وحي، بل تصبح مادة موسيقية دسمة تجسّدها ندى وتعيد ابتكارها بإبداع في كل نوتة تقتبسها وتحوّلها، وفي كل عبارة تجتهد كلماتها للخروج بجملة مترابطة، وكأنها لمحة عن عالم تاريخه ضبابي ومستقبله صدى.
يبرز هذا التوهان بين الماضي والحاضر أكثر فأكثر أثناء أدائها الحي لأغنياتها. ففي كل جولة من جولاتها الموسيقية العديدة، التي تؤدي فيها أحيانًا وحدها وأحيانًا كجزء من فرقة موسيقية رباعية، يتكشف وجه جديد من عالمها الصوتي. وقد ترك أداؤها في المهرجانات الموسيقية مثل "ارتجال" و"?Le Guess Who" بصمة كبيرة على الجمهور بفضل صوتها المؤثر. ولا عجب بأن تطورها الفني قد تجاوز حدود الموسيقى وحدها، فقد شاركت ندى أيضًا في الفيلم القصير "يوم الحداد الوطني في المكسيك" لخيري بشارة (2022)، مؤكدة على قدرتها على الغوص في المساحات الموجودة بين العوالم المختلفة.
ومع ذلك، لا يتمحور فن ندى حول الاستلهام من التقاليد فحسب، بل أيضًا حول التحلي بالجرأة اللازمة لتجديد كل ما هو تقليدي. في عام 2023، أدت ندى أغنيتها "بانِت" التي عُرضت على منصة COLORS، واصفةً الأغنية في مقابلة مع المنصة بأنها "مناجاة للتحلي بالقوة اللازمة لإيجاد الصوت الحكيم داخلنا". تؤمن ندى بأن الماضي والمستقبل ليسا متعارضين، بل يتواجدان معًا في المساحة نفسها، كصوتين في جوقة واحدة، ينتظران الفن لإحيائهما. وتترجم ندى رؤيتها هذه في جميع مشاريعها، من تعاونها مع الفنان التجريبي الفرنسي فامبي في أغنية "Myst"، ومشاركتها في تأليف موسيقى فيلم "Les Damnés ne pleurent pas"، إلى ألبومها الثاني المنتظر "لاقيني تاني".
في فبراير 2025، أصدرت ندى أغنية "غرزتين"، التي تقدم لنا لمحة عن ألبومها القادم "لاقيني تاني"، لتجتذبنا مرة أخرى إلى عالمها الغامض الآسر الذي أمضت سنوات عديدة في بنائه. وفي 3 أبريل، كشفت عن الأغنية أخرى من الألبوم وهي " كعبي عالي" التي مثلت رحلة مشوقة من لحظات مؤثرة يغوص فيها المستمع في موجات من التفكير والتمرد والبهجة التي لا تعرف حدودًا. وإذ أستمع إلى أغنية تلو الأغنية في هذا الألبوم، يتضح لي الأمر أكثر فأكثر: موسيقى ندى الشاذلي تأخذ المستمع في رحلة إلى عالم مجهول تمر فيه لحظات عابرة تسترجع ما هو مألوف، وكأنها تدعونا لننسى أنفسنا لبرهة في تلك المساحة الفارغة بين زمن ولّى وزمن لم يأتِ بعد.