خلال حفل "ليلة دايم السيف" الذي أقيم قبل أيام، وجمع نخبة من النجوم أبدعوا بأداء أغان كتبها الأمير خالد الفيصل ولحنها محمد عبده، واخُتتم بوصلة امتدت لساعة كاملة أمتع فيها فنان العرب جمهوره ببعض من أبرز محطاته الغنائية مع الشاعر الكبير، أعادت آمال ماهر تسليط الضوء على أغنية "ليلة"، ووصفتها بأنها العمل الذي مهّد الطريق للأغنية الخليجية في مصر.
والواقع أن تصريح النجمة المصرية دقيق، إذ أن "ليلة" (أو "إبعاد") واحدة من الأغاني التي ظلت عالقة بأذهان الجمهور المصري حتى بعد مرور عقود.
لكن ما الذي جعل منها أغنية فارقة إلى هذا الحد؟
ربما لا يكمن الجواب في الأغنية نفسها، بقدر ما يكمن في رحلتها.
القاهرة كمحطة مفصلية
رغم غياب التوثيق الدقيق لأول مرة غنّى فيها محمد عبده "ليلة" على المسرح، تشير العديد من الروايات إلى أن انطلاقتها الحية كانت من القاهرة. هناك، وقف فنان العرب أمام الفرقة الماسية الشهيرة بقيادة أحمد فؤاد حسن، في حدث شكّل سابقة لفنان خليجي، إذ كانت الفرقة تُعدّ من أبرز علامات الموسيقى المصرية، ورافقت كبار النجوم مثل عبد الحليم حافظ ووردة الجزائرية وشادية.
لم يكن ظهوره مجرد مشاركة فنية، بل لحظة اعتراف رسمي بالأغنية الخليجية في واحدة من أكثر العواصم العربية تأثيرًا في الساحة الموسيقية. فقد حمل محمد عبده على المسرح لحنًا مختلفًا ولهجة غير مألوفة، ونجح في أن يوقظ فضول النخبة الموسيقية المصرية، ويصل إلى جمهور لم يكن بعد قد اعتاد هذا اللون الغنائي.
بهذا المعنى، لم تكن "ليلة" مجرد أغنية عبرت الحدود، بل حدثًا فنّيًا مهّد لأول لقاء حقيقي بين الأغنية الخليجية والذائقة المصرية. ومنذ تلك اللحظة، أصبحت القاهرة من محطات فنان العرب الثابتة، وامتد حضوره فيها كصوت عربي جامع، يتجاوز الجغرافيا واللهجات.
أغنية في حقيبة مغترب
"إبعاد كنتم وإلا قريبين/ المراد إنكم دايم سالمين/ ما أقول غير الله يكون بعون كل العاشقين".
عند صدور الأغنية، كان محمد عبده قد رسّخ مكانته كواحد من أبرز الأصوات الخليجية. لكن ما منح "ليلة" هذا التأثير العابر للحدود، كان صداها عند المغتربين. فقد كانت الأغنية وسيلة تعبير عن الشوق، والبعد، والارتباط، وعكست مشاعر الحب والغربة معًا.
"أشتاق واسأل عنكم الأشواق/ الفراق ما غيَّر عليَّ الفراق/ عساكم ما نسيتوني عساكم/ وعسى ما مر هوى بعدي وخذاكم/ ناطر هواكم ناطر/ قادر ولا آني قادر/ ما أقول غير الله يكون بعون كل العاشقين".
وجدت كلمات الأغنية طريقها إلى قلوب الجمهور العربي عبر المهاجرين والوافدين. كثيرون منهم، وخاصة المقيمين في السعودية والخليج، كانوا يأخذون أشرطة محمد عبده كهدايا عند عودتهم إلى أوطانهم. وهكذا انتقلت "ليلة" من شريط كاسيت في حقيبة مغترب، إلى نغمة مألوفة في البيوت العربية.
"منيتي أسهر معاكم كل ليلة/ وأشتري بعمري رضاكم ليلة بليلة/ يراودني أمل في ليلة ألقاكم/ وأطرَّز بالفرح أحزان فرقاكم/ عساكم ما نسيتوني عساكم".
تعاون سعودي - كويتي
رغم جماهيريتها الطاغية، ورغبة الكثيرين في معرفة أسرارها، لم يسبق لمحمد عبده أن كشف قصة الأغنية أو ظروف إنتاجها. ما نعرفه أن كلماتها كُتبت على يد الشاعر الكويتي الراحل فائق عبد الجليل، الذي اختفى في ظروف مأساوية خلال الغزو العراقي للكويت. ولحّنها الموسيقار الكويتي يوسف المهنا.
جاء التعاون بين محمد عبده وفائق والمهنا في منتصف السبعينيات، وكان عبده حينها "شعلة من العمل"، وكثير التنقل والنشاط في جميع أنحاء الوطن العربي، وفقًا لما ذكره المهنا.
وأوضح ملحن الأغنية أن الشاعر كتب الأغنية في أربع صفحات كاملة، لكن المهنا اختار جزءًا منها وعدَّله ليتناسب مع اللحن. وبعد عام من العمل، صدرت الأغنية رسميًا عام 1976، لتبدأ رحلتها عبر الإذاعات والتلفزيونات في المنطقة.
إرث "ليلة"
ألهمت الأغنية المشهد الموسيقي في العالم العربي، إذ فتحت أعين الملحنين والمطربين على جماليات الإيقاع الخليجي، وأثبتت أن هذا اللون الغنائي قادر على ملامسة قلوب الجمهور أينما كان.
على مدار العقود، أعاد فنانون من أجيال مختلفة غناءها بطريقتهم، مثل راغب علامة وكارمن سليمان وفرقة عائلة بندلي، وتقريبًا كل موهبة شابة شاركت في برنامج مواهب وحاولت استعراض قدرتها على الغناء الخليجي. بذلك بقيت الأغنية حاضرة بروحها رغم تغير الأصوات والأساليب.
واليوم، بعد نحو خمسين عامًا، ما زالت "ليلة" تتردد في الذاكرة، لا كأغنية فقط، بل كأثر فني عابر للزمن، ورمزًا لشعبية محمد عبده الممتدة في أنحاء الوطن العربي.