مع مرور السنوات تحول الاستماع لأغاني فيروز صباحًا إلى طقس يميز سكان بلاد الشام خاصةً والبلاد العربية الأخرى على وجه العموم. لذلك ليس من الغريب أن تتواجد أغاني فيروز في قوائم الأكثر استماعًا بعد عقود من إصدارها. فطوال عام كامل تلا إطلاق قوائم بيلبورد عربية، لم تغب فيروز إطلاقًا عن قائمة 100 فنان هم الأكثر استماعًا حول العالم، عن مجمل أغانيها. ما جعلنا نتأمل أرشيفها من جديد، ونحاول تسليط الضوء على واحدة من المزايا الفريدة في أغانيها، والتي تجعلها تتمتع بمكانة خاصة في وجدان الجمهور العربي.
ما يميز فيروز أولًا، أن أغانيها تعتني بشكل خاص بالظرف المناخي، وترسم بدقة التفاصيل الطبيعية، لتنقل صوتيًا الدفء أو البرد، والضوء والروائح. التفاصيل المحسوسة تجعلنا نتماهى مع صوت فيروز الأثيري وكأنه تجلٍّ لروح الطبيعة؛ التي ترسم بأغانيها حركتها الدورية من الشتاء إلى الخريف، ومن الليل إلى النهار.
غنّت فيروز أغاني تُناسب كل الفصول لترسم أجواءها وتفاصيلها بعذوبة لا متناهية، لتأخذ المُستمعين برحلة بعيدة عن ضوضاء المدن الحديثة إلى الطبيعة في الضيعة اللبنانية الجبلية التي تنتمي إليها، والتي نشعر بأننا نعرفها دون أن نزورها.
أغاني فيروز الشتوية
بالنسبة لضيعة لبنانية جبلية تكسوها الثلوج شتاءً، فإن الشتاء هو الفصل المحوري الذي يلعب بطولة الحكايات الحزينة والقاتمة. معه تبدأ السنة أو تنتهي مجازًا، رغم البنية الدائرية التي تحكم تعاقب الفصول؛ إنه كذلك بالنسبة لفيروز التي تعُد السنين بتعاقب فصول الشتاء، حيث تقول بأغنية "شادي": "عشرين مرة أجى وراح التلج"، إنه البداية والنهاية ربما، فمعه تبدأ الحكاية وتنتهي بأغنية "حبوا بعضن".
تستقبل فيروز الشتاء بصيحات "رجعت الشتوية" الحماسية التي تُعبر عن الشوق، والتي سرعان ما تنكسر وتتلوها الآهات، فتغني فيروز: "شتوية وضجر وليل/ وأنا عم أنطر ورا الباب". فالشتاء يعني البرد والانتظار، ولياليه الطويلة المُضجرة هي المناخ القاتم الذي تستعيد به فيروز أكثر أغانيها حزنًا، ففيها تمُر "ليالي الشمال الحزينة"، وفيها تصرخ نداءاتها اليائسة بأغنية "وحدن": "يا ناطرين الثلج ما عاد بدكن ترجعوا/ بصرخ عليهم بالشتي/ يا ديب بلكي بيسمعوا".
وإذا ما اقترنت حكايات الحب الفيروزية في ليالي الشتاء ستكون مُخيبة وقاتمة، وستُصاحب التفاصيل الرومانسية صوت متوجس مُريب، كما يحدث في أغنية "بليل وشتي"، التي تبدأ برسم ملامح ظرف الليلة الشتوية التي تحتضن حكاية حُب، بأداء يستبق مشاعر المقطع الأخير الذي يصل إلى لون الفراق.
أما الصباحات الشتوية فهي الظرف الذي ترسمه فيروز مع وقفاتها التأملية للتعبير عن ذكريات الانتكاسات العاطفية، فتُغني: "بأيام البرد أيام الشتي/ والرصيف بحيرة والشارع غريق/ بتجي هاك البنت من بيتها العتيق/ ويقلها انطريني وتنطر عالطريق/ ويروح وينساها وتدبل بالشتي". انحياز فيروز إلى توصيف الصباحات الباردة في أغنية "حبيتك بالصيف"، التي تسرد حكاية علاقة حُب خائبة امتدت لعدة فصول، هو ليس إلا جزءًا من فلسفتها العاطفية، التي تقرن الخيبات العاطفية ببرد الشتاء؛ الخيبة التي تُعبّر عنها بشكل مُختلف بأغنية "أديش كان في ناس"، التي ينفك بها ارتباط العلاقات العاطفية عن الطبيعة، حين تُراقب العلاقات الرومانسية التي تُقاوم كآبة الطبيعة بالشماسي، وتتحسر على خيبتها التي تمتد من أيام الشتاء لأيام الصحو.
الشتاء لا يحضر دائمًا في أغاني فيروز بذات الصيغة، ففي بعض الأغاني تتخلى فيروز عن دلالات الشتاء بصورها الشعرية، وتتغنى بجماليات الطبيعة دون أي تأويلات ذاتية أو عاطفية من ورائها. ينطبق ذلك على أغنية "شتي يا دنيا" وأغنية "تلج تلج"، التي لا يُمكن العثور على أغنية أفضل منها تُناسب شاعرية الطبيعة في الأيام التي تهطل بها الثلوج؛ علمًا أن هذه الاستثناءات غالبًا ما تقترن بالغناء لطقوس ريفية أو بطقوس الكريسماس.
أغاني فيروز للربيع
الربيع بعُرف فيروز هو فصل الحُب واللقاءات الغرامية الخجولة؛ فهو موسم تفتح الزهور، الذي تتفتح معه الرغبة بالحب ويتجدد الأمل. لعل أغنية "أنا لحبيبي" هي النموذج الأكثر رهافة بين أغاني فيروز الربيعية. فيها نشعر بأن الطبيعة تتماهى مع مشاعر فيروز لتُعبّر عنها وترسم بأزهارها صور شعرية لعلاقة حب أثيرية، حين تُغني فيروز: "حبيبي ندهلي/ قلي الشتي راح/ رجعت اليمامة وزهر التفاح/ وأنا على بابي ندي والصباح/ وبعيونك ربيعي نور وحلي". علمًا أن توزيع أغنية "أنا لحبيبي"، الذي تقوده آلة البيانو، هو أقرب لأغاني فيروز الشتوية، ويختلف بشكل كبير عن بقية أغاني فيروز الربيعية، التي تعتمد على أصوات ونغمات تُحاكي أصوات العصافير، كما هو الحال في أغنية "علموني" مثلًا.
الحُب في أغاني فيروز، وبحلته الربيعية الأكثر زهوًا، يقترن بالطقوس الريفية وبعودة الطيور المُهاجرة، التي ينوب صوت زغردتها عن قسوة صوت الرياح والمطر. الطيور تحمل معها الحب، وتُعيد معها دفء المشاعر التي تبلدت في الشتاء البارد. في أغنية "جايبلي سلام" تُغني فيروز: "نفض جناحاتو عَشباك الدار/ ومتل اللي بريشاتو مخبي سرار وسرار". وكأن صوت الطبيعة الذي تنقله الطيور يحيي الرغبة بالحب. تبادر فيروز أحيانًا، كما يحدث في "بقطفلك بس هالمرة"، وأحيانًا تترك نفسها تستسلم لمبادرات شريكها، كما يحدث في أغنية "عَدروب الهوى مشاني حبيبي"؛ لكن من يسبق كليهما في المبادرة هو فصل الربيع، حيث تغني فيروز: "بكرا بيجي نيسان يسألنا".
ومن أغاني فيروز الربيعية الأكثر شعبية أغنية "بعدك على بالي"، التي لها حالة خاصة لأنها مكونة من ثلاثة مقاطع، وكل مقطع منها يُمثل فصلًا تعيشه فيروز أو تستعيده، تبدأ بفصل الربيع: "طل وسألني إذا نيسان دق الباب/ خبيت وجهي وطار البيت فيي ودار/ حبيت أفتحله/ عالحب أشرحله/ طليت ما لقيت غير الورد عند الباب". وفي اللازمة تستعيد ذكريات الخريف: "بعدك على بالي/ يا قمر الحلوين/ يا زهرة تشرين"، وفي المقطع الأخير تقول: "مرق الصيف بمواعيده/ والهوى لملم عناقيده"، وكأن الحب لدى فيروز له موسم كالزراعة والحصاد، قد يفوت أوانه، ولكنه يتجدد مع عودة الربيع.
أغاني فيروز الصيفية
ليالي الصيف القصيرة تتفوق على نهاراته الطويلة، فرغم تعريج فيروز للغناء عن موسم الحصاد بمسرحياتها بأغاني مثل: "عم بتضوي الشمس عالأرض المزروعة/ عم بتضوي الشمس والدنيا عم توعى"، لكن السهرات الصيفية لها طعم آخر، ففيها تتكون الذكريات الجميلة التي ستُغني لها فيروز وتظل تسترجعها دهرًا. فيروز التي تُغني: "اسهار بعد اسهار/ ليحرز المشوار"، تسترجع بالعديد من أغانيها أيضًا ذكريات السهرات الصيفية، لعل أبرزها أغنية "سهر الليالي"، التي يرد بها: "شو كانت حلوة الليالي/ والهوى يبقى ناطرنا/ وتجي تلاقيني/ وياخدنا بعيد/ هدير المي والليل".
الصيف إذًا هو شهر الذكريات السعيدة، ولياليه هي ليالي السهرات الجميلة التي تجمع الناس، والتي تختلف كليًا عن ليالي الشتاء الحزينة والباردة.. إنها اللحظات التي تتمنى فيروز أن تطول وتستمر، تُغني: "الليل مش للنوم/ أصل الليل للسهر". تتمنى فيروز أن تستمر هذه اللحظات الجميلة، وتشعر بالأسى عند اقتراب انتهائها، ولذلك غنت لـ "آخر أيام الصيفية"، ورددت بأغنية "خدني يا حبيبي" كلمات أكثر شاعرية: "انساني بالغفا/ بأيام الصفا/ تترجع الليالي/ ويرجعوا الأحباب".
مشاعر فيروز عند نهاية الصيف تبدو مختلطة، بخلاف ما تبقى من فصول؛ ففي بعض الأغاني تبدو فيروز مصرة على استثمار أفراح سهرات الصيف حتى الرمق الأخير، كما هو الحال في أغنية: "صيف يا صيف عجبهة حبيبي/ لوح يا سيف رجعتنا قريبة". وفي أغاني أخرى، تجنح فيروز للكآبة مع انتهاء الصيف، كأغنية "حبيبي قال انطريني"، التي يرد فيها: "حبيبي قال انطريني/ لما بيجي الصيف/ عَبيادر الصيف/ وعَالحقلة اسبقيني"، أو بأغنية "خدني يا حبيبي"، التي تُغني بها: "يا أمير السيف/ وين أخدت الصيف".
فيروز تغني الخريف
العلاقة بين فيروز وفصل الخريف هي الأكثر وضوحًا بين كل الفصول؛ ليس لأنها ولدت في فصل الخريف، ولكن لأن فيروز تختزل الخريف بأبسط صورة. تكرر بأغانيها رسم لوحة الطبيعة التي تُغطي سماءها الغيوم وتتلون بأوراق الشجر الصفراء التي تتساقط أرضًا، وتُعطي هذا المشهد الطبيعي دلالات رمزية وتأويلات عاطفية لا تتعارض مع المنطق. الخريف بأغاني فيروز هو فصل التأمل، الذي يحُث فيروز على استذكار علاقات الحب المنسية ويفتح الباب لإدراك الزمن الضائع، الذي لن يعود أبدًا. تُخاطب فيروز أوراق الشجر الصفراء المرمية على الأرض في أغنية "في قهوة عَالمفرق": "يا ورق الأصفر/ عم نكبر عم نكبر". تُدرك بأنها جزء من الطبيعة التي وصلت لفصلها الأخير وأن أوراق الزمن التي تتساقط لن ترجع أبدًا، وحتى عندما تفتح باب الخيال بالسفر عبر الزمن في الأغنية ذاتها، فهي لا ترمي سوى لرسم المزيد من التفاصيل الكئيبة عن حتمية النهاية التي نسير نحوها، حيث تقول: "متل السهم الراجع من سفر الزمان/ قطعت الشوارع ما ضحكلي إنسان/ كل صحابي كبروا وتغيّر اللي كان/ صاروا العمر الماضي/ صاروا دهب النسيان".
الخريف كان بطل حكاية أولى تجارب فيروز المُستقلة عن الأخوين الرحباني بعد انفصالها عنهم فنيًا بألبوم "دهب أيلول" 1980، الذي كتب كلماته جوزيف حرب ولحنه فيلمون وهبي. غنت فيه فيروز: "ورقو الأصفر شهر أيلول/ تحت الشبابيك/ ذكرني وروقو بدهب مشغول/ ذكرني فيك"، لتعود فيروز والخريف وتعود معهما ذكريات الحب الضائع، وتفتح الباب على مصراعيه لاسترجاع مشاعر الحُب والحسرة، فالخريف هو صورة لذكرى لا تُمحى.
في ذات الألبوم تُغني فيروز: "طلعلي البكي ونحن قاعدين/ لآخر مرة سوا وساكتين/ بعيونك حنين وبصوتك حنين/ لو بعرف حبيبي بتفكر بمين"؛ ليصبح المزاج الخريفي والتأمل والبكاء وقطرات المطر الأولى التي تهطل كل سنة تُمثل فيروز في الجزء الأخير من مسيرتها، التي ذبلت فيها كل الفصول ولم يبقَ سوى الخريف.
الخريف هو الفصل الوحيد الذي ظلّ حاضرًا بالدلالات ذاتها في أغانيها مع زياد الرحباني؛ ابنها الذي نشأ بعد نجاح وشرهة والديه، في بيئة مختلفة عن أجواء الضيعة اللبنانية الفيروزية. ومعه غنّت فيروز أجمل أغانيها الخريفية: "بتذكرك كل ما تجي لتغيم/ وجهك بيذكر بالخريف/ ترجعلي كل ما الدنيا بدها تعتم/ متل الهوى المبلش عالخفيف/ القصة مش طقس يا حبيبي/ هي قصة ماضي كان عنيف/ بس هلأ ما بتذكر شكل وجهك/ بس بذكر أديش كان أليف".