شغلت عودة أحمد سعد المكتسحة إلى ساحة البوب المصري في 2022 الجمهور والصناعة الموسيقية على حد سواء. فالفنان كان قد قدم في بداية الألفية تجارب خجولة الانتشار رغم جديته، ورغم تمكنه كفنان على جميع الأصعدة، وقد كان قد تخرج لتوّه من معهد الموسيقى العربية. ظهرت هذه التجارب على شكل 3 ألبومات "أشكي لمين" و"وحشتني عيونك"، فوجد بعض النقاد أنه لربما لم يكن فنان ألبومات بل فنان سينجلز، معززين وجه نظرهم بالإشارة إلى النجاح الكبير الذي حققه بعد حوالي عشرين عامًا على التجارب الأولى، عن طريق أغاني فردية، مسمين الظاهرة التي حقق من خلالها أحمد سعد العودة بالـ "ريمونتادا".
والريمونتادا هذه لندرة حدوثها، استحقت أسبابها التحليل والتأمل بعد أن أصبح أحمد سعد منذ صيف العام 2022، واحدًا من أبرز نجوم البوب في المنطقة، بعدما تتالت نجاحات "عليكي عيون" أولًا فتبعتها "إيه اليوم الحلو ده" و"يا عرّاف" مع زعيم ونوردو ثم الهيت "وسع وسع". ثم حلَّ العام 2023 فسمعنا "قادر أكمل"، ثم "اختياراتي" و"يا ليالي" مع روبي، الهيتات الأبرز لصيف 2023. ومع الوصول إلى عيد الحب في 2024 قدّم مع أصالة ديو "سبب فرحتي" الذي تجاوزت نجاحاته كل التوقعات، واستحق جائزة أفضل ديو بالعربي في حفل جوائز بيلبورد عربية للموسيقى 2024. فهل فعلًا كان العامل الفارق مع هذه النجاحات هو نظرية الألبوم والسينجل التي يقترحها البعض؟
الأمر الآخر الذي يستحق الوقوف عنده بين الماضي والحاضر في حالة سعد، هو التوجه الموسيقي الذي قدّمه في المرتين، وقد عرفت ألبوماته الأولى توجهًا عاطفيًا حزينًا في الكلمات واللحن، أي ينتمي إلى المدرسة التي يحب المصريون تسميتها بـ "أغاني النكد". وقد ذكر أحمد سعد العام الماضي خلال ظهوره في لقاء إعلامي أنه لم يعد يود تقديم أغاني من هذا النمط، وأنه عاهد نفسه أنه لن يقدم للناس سوى أغاني الفرفشة والطاقة الإيجابية والحيوية، وكان هذا ما يفعله حينها بالفعل. ثم انتقل ليتذكر في اللقاء نفسه، أنه وتحديدًا قبل مشاركته في حفل روائع السنباطي في موسم الرياض 2023، تابع تعليقات من الجمهور تستغرب مشاركته في حفل طربي كهذا، وأنهم بعد الأغاني الخفيفة الحيوية التي قدمها قد شككوا بقدراته ونسيوا خلفيته الدارسة والمختصة باللون الطربي، فخرج ليلتها إلى المسرح بحماسة عالية ليذكرهم بقدرات صوته، وكان "عايز ياكل المايك".
ألبوم أحمد سعد الأول منذ 18 عامًا
أما اليوم فقد وصل ألبوم أحمد سعد الطويل الأول بعد الريمونتادا، ليكون الورقة الفاصلة في كل النظريات السابقة حول النجاحات وعوامل ضمانها والألوان التي تليق فعلًا بصوت أحمد سعد. خرج ألبوم "حبيبنا" إلى النور فجأة ودون سابق إعلان أو تشويق مع بداية العام 2025، ليضم 9 أغاني جديدة، مع جملة تعاونات محدودة ولكن مدروسة، من إنتاج شركة مزيكا.
لم تكن التعاونات وحدها هي المدروسة، بل شكل تقديم الألبوم ككل. فقد صدرت جميع الأغاني دفعة واحدة، وعبر فيديو كليب واحد يمتد مع جميع الأغاني، بتصور بصري يوحد الألبوم كله من إخراج أحمد زريق، وتخرج عن القاعدة فقط أغنية "حبيبنا" التي تتميز عن باقي الفيديوهات بمشاهد خارجية حركية، في حركة جريئة وغير مألوفة في موسيقى البوب. لا تشتت هذه الفيديوهات الانتباه عن الأغاني، وتنجح في الوقت ذاته في إرساء الجو العام لما يبدو أنه تجربة استماع متكاملة حيث يتوجب على الجمهور الاستماع للأغاني بشكل كامل وبالترتيب الموضوع لها والذي يأثر كل التأثير على استقبال الألبوم الذي نفتتحه مع أغنية "مفتقدني".
تضع الأغنية الافتتاحية الأساسات التي سيسير عليها باقي الألبوم، فنجد الملحن عزيز الشافعي وقد خرج من منطقة راحته في التلحين على المقسوم الشرقي الذي رافقه في معظم الألحان التي قدمها للنجوم في السنوات الماضية واستبدله بالصوت اللاتيني في الألحان والتوزيعات. يرافقنا الخط اللاتيني طوال الألبوم، حيث تطغى الجيتارات الإسبانية في جميع الأغاني التالية إلى جانب الجيتار الأكوستيك والكهربائي، وحضور هادىء وأنيق للترومبيت على امتداد الألبوم. كما نستمتع بشطحات من موسيقى الفلامنكو، منفذة بجاذبية عالية في التوزيعات التي وضعها للألبوم نادر حمدي وأحمد إبراهيم، ويتألق الأخير في هذه التجربة في دور الموزع مرة ودور الملحن في أغنيتي "بسيط" و"عمري اللي فات".
نستمع للأغاني، ونشاهد أحمد سعد يتنقل بهدوء طاغ، في أرجاء منزل قاهري فينتج حيث تجتمع الصورة والأثاث والإكسسوارات وحتى ملابس أحمد سعد ضمن باليتة ألوان موحدة، شتوية ودافئة، تتماشى مع الإحساس العام بالهدوء الذي تمنحه أغاني مثل "لو تيجي" حيث يأتي أداء سعد في الطبقة المنخفضة في غاية الصفاء والدقة، على نحو يصعب تصديق أنه الصوت العريض ذاته الذي اعتدنا عليه في الجواب، قبل أن يرتفع في الجسر بين المقطع الأول واللازمة، حيث يردد مع انفعال الجيتارات "مين/ يملى مكانك مين؟/ والراحة تيجي منين؟/ غايب وسايب ذكريات باقيين" ليذكرنا انفعاله العاطفي هنا بأداء الراحلة ذكرى أو الديفا سميرة سعيد في هيتات بداية الألفية.
أحمد سعد متنوّع المواضيع والحكايات
رغم التوجه الموسيقي الموحد في اللحن والتوزيع والأداء، إلا أن كلمات الأغاني جاءت بثيمات ومواضيع متنوعة. فمن الاستغناء والتحدي في "مفتقدني" و"عايز سلامتك" إلى الرومانسية المفرطة في "لو تيجي" و"تجي نحارب" و"بسيط" التي تضمنت المشاركة الوحيدة في الألبوم من الشاعر نادر عبدالله. نصل بعد ذلك إلى الأغنية الغزلية "سودا سودا" في مركز الألبوم التي أبدع في تلحينها إيهاب عبدالواحد. رغم الحيوية في الكلمة واللحن، لكن اللمسة اللاتينية تغلف الأغنية بمسحة من الشجن، حتى مع كلمات منة عدلى القيعي التي لا يمكن أن تخلو من شيء من الطرافة: "ده حبيبي الغجري بشوفه انا واجري/ وراه مشوار وراه مشوار وكعوبي تدوب/ و الشفه فراوله يا ناس وانا اولي/ ادوق وانهار ادوب وانهار من الشوق ملهوف".
تستكمل منة القيعي في هذا الألبوم ما بدأته مع أحمد سعد في أغاني أخرى، فبعدما قدمت له عبارات أصبحت علامة فارقة في البوب العربي مثل التساؤل الأزلي "أنا مغناطيس لناس غريبة ليه؟" في أغنية "اختياراتي" أو "مترستق والانبساط لازقلي لزقة دا ما صدق" في أغنية "إيه اليوم الحلو ده"، نجدها هنا تستمر بأسلوبها السهل الممتنع، حيث تخلق تعابير بغاية الخفة والرشاقة، غير مألوفة، ويمكننا تحميلها مع الموسيقى أبعاد عاطفية مختلفة.
تقاطع "حبيبنا" و"نور العين"
نصل أخيرًا إلى أغنية "حبيبنا" التي يحمل الألبوم اسمها من كلمات تامر حسين وألحان مدين، فتشعرنا مقدّمتها أنه قد تم تسجيلها في شوارع بلد مثل كوبا أو إسبانيا، وسط أداءات عفوية لفرق موسيقية غجرية. ونشعر ذلك أيضًا في الفيديو البصري المرافق، الذي ينتقل من لقطات الشقة السابقة إلى متابعة تحركات طفل صغير يتنقل مع طائرته الورقية في حي شعبي فقير، فيما يغني "حبيبنا حبيبنا حبيبنا يا عيني عليه". منذ صدور الأغنية انتشرت هذه اللازمة بين الجمهور الذي تداولها مشيرًا إلا أنها تتشابه مع لازمة: "حبيبي حبيبي حبيبي يا نور العين" لـ عمرو دياب.
ويمكن أخذ هذه التعليقات من الجمهور بعين الاعتبار مع التشابه بين اللازمتين، ولكن لا يعقل في الوقت نفسه أن يكون ذلك تقليد أعمى من صنّاع الألبوم في ختامه، بعدما قدّم كل اسم منهم عبر الأغاني الثمانية الأخرى، ذروة ما يمكن لهم تقديمه لألبوم بوب في هذه الحقبة. بل يمكن أن نرى هذه اللازمة كتحية لعمل مؤثر في تاريخ البوب العربي والمصري تحديدًا، الذي وضع عمرو دياب أساسات متينة له، وكان من المجددين فيه، وقدّم كل ما يمكن تقديمه صوتيًا، بحيث لا بد لفريق نفذ لتوه ألبومًا لاتينيًا بالكامل، أن يتقاطع مع تجربة عمرو دياب السبّاقة.
تجربة أحمد سعد في ألبوم "حبيبنا" تجربة متكاملة له ولصنّاع العمل، نجحوا فيها بتقديم رؤية موّحدة وخطوة جريئة، تنفي أن يكون نجاح أحمد سعد الفني مرتبطًا بإطلاق أغاني منفردة عوض الألبومات، أو أنه ينجح مع الألحان الحيوية الراقصة المبتهجة فقط، بل تؤكد أننا كجمهور يجب أن نتوقف عن التساؤل: كيف عاد أحمد سعد وحقق كل هذه النجاحات؟ ونستبدله بتساؤل: لماذا حُرمنا من أحمد سعد طوال تلك السنوات؟