لحّن له بليغ ودافع عنه نجيب محفوظ: عدوية، ملك الغنوة الشعبية

في مراجعة سريعة نحاول رصد تأثير ملك الغنوة الشعبية على صناعة الموسيقى في عصره وأثره الذي امتدَّ حتى الآن
عدوية
عدوية
Change Font Size 20

"في وقت كان المسموع الأول… بينافقوه؟ الشعب بينافقه؟ لا ده راجل من الشعب بيستعمل أساليب شعبية وألفاظ شعبية، وصوت خشن شعبي، لا يخلو من حلاوة". في تلك الجمل الوصفية، يفسر نجيب محفوظ في حوار مع المذيع مفيد فوزي سبب حبه للمطرب أحمد عدوية، مفككًا اندهاش محاوره الذي وصل للصدمة، فكيف للروائي الحائز على جائزة نوبل أن يضع ضمن قائمة مفضليه، إلى جانب أم كلثوم الذي كان يعد التراسًا لها، أحمد عدوية؟

الحقيقة أن كلام نجيب محفوظ لم يكن مجرد إنصاف لأسطورة عدوية المظلومة نخبويًا حينها، أو توضيحًا لسبب انتشاره، بل مفتاح معضلة موسيقية استمرت طوال السبعينيات والثمانينيات، وهي معضلة الفنان المعشوق من الشارع، والمبغوض من النخبة الثقافية والوسائل الرسمية للإذاعة في بلده. انعكس هذا التضاد على مسيرة كاملة بكل آلياتها الإنتاجية ومساراتها، ليصبح الأكثر تأثيرًا ثقافيًا، وبتألقه في السبعينيات خلق محطة بين الموجة الكلاسيكية والبوب، دون وجوده لربما كانت لها معالم أخرى مختلفة تمامًا.

في عام 1972 بدأت مسيرة عدوية كمغنٍ ينتج إصدارات مع شركة إنتاج، وهي شركة تسجيلات صوت الحب، بعد أعوام قليلة من غنائه بالأفراح والملاهي الليلية في أواخر الستينيات. وقع حينها اختيار مأمون الشناوي وعاطف منتصر على "السح الدح امبو" لتسجيلها، والتي جمعت بين الموال والمونولوج، ورأى فيها الثلاثي مزيجًا موسيقيًا جديدًا تمامًا، يستمد روحه من التراث وهو ليس بالتراث الشعبي، وتملك إيقاعاته الموسيقية حرية لم تتح للإنتاج الموسيقي طوال مسيرات عمالقة الفن الذين مثلوا جيل ما قبل السبعينيات. شكّل الإصدار موسيقى طازجة آتية مباشرة من روح الشارع وملاهيه الشعبية. 

ما أتى بين التخت الشرقي والبوب

قلب عدوية بالفعل المشهد الموسيقي المصري لمهرجان، وكانت هناك بالطبع محاولات سابقة لدمج التخت الشرقي التي اعتادت عليه أذن سميعة الموسيقى، مع التخت الغربي بآلاته الحديثة، والتي أفرزت العديد من الظواهر الموسيقية البارزة مثل فرقة المصريين، أو الفور إم، أو غيرها من الفرق الأخرى، والتي نضجت بعدها في ظاهرة الملحن والموزع الموسيقي حميد الشاعري. 

لكن ما جلبه عدوية للمشهد كان مختلفًا للغاية، أكثر جرأة من أقرانه وسابقيه من المغنيين الشعبيين، نازعًا الغناء الشعبي من قالب وسجن المنظور التراثي الشعبي إلى قواعد الكباريه، والتي يسيح فيها الشرقي على الغربي. كانت أكثر الآلات المستعملة في إيقاعات أغانيه هي الأكورديون والأورج، مع الطبل البلدي والصاجات. وفي نفس الوقت فإن الإيقاعات والتقسيمات تميل للتخت الشرقي مع انتقالات أكثر حيوية وسرعة ولا تخلو من الفجائية. 

تعاون معه بالتلحين العديد من الأسماء البارزة واللامعة مثل حسن أبو السعود الذي رافقه بالعديد من المحطات البارزة في مسيرته وكان ضمن فرقته الموسيقية الشهيرة مع الكمنجاتي عبده داغر، وضابط الإيقاع حسن أنور، وسامي البابلي على الترومبيت، بالإضافة إلى عازفين آخرين.  كما لحن له بليغ حمدي "بنج يا بنج" و"يا أختي سملتين" و"القمر مسافر". أما هاني شنودة فلحن له "زحمة يا دنيا زحمة" و"سلام مربع" و"مجاريح"، ولحن له كمال الطويل "على فين"، وسيد مكاوي "سيب وانا اسيب"، كما لحن له محمد عصفور "يا ليل يا باشا يا ليل" و"كركشنجي" و"بلاش اللون ده معانا". 

 

الشارع هو السوق الوحيد للموسيقى

تمثل  زخم عدوية الأكبر في مرحلة السبعينيات، حيث تزامنت بداية مسيرته مع مرحلة جديدة من التغير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، تمثلت في الانفتاح الاقتصادي، وصعود طبقات جديدة من التجار والمقاولين ماديًا وإجتماعيًا، وبدأ حجم جمهور الموجة الكلاسيكية الموسيقية يتقهقر. 

هنا أتت شراكة عدوية مع حسن أبو عثمان، الحلاق والعامل الذي ضل طريقه للشعر الغنائي، وكتب لمحمد رشدي، ولكنه أخذ مع عدوية مساحات أكبر بجرأة لغوية تعبيرية أكبر، وبإدخال أكبر قدر من المصطلحات الشعبية الخالصة. وربما كان هذا أبرز ما أثار سخط النخب المثقفة والموسيقية من أحمد عدوية، فقد مثَّل ثورة طبقية لغوية جعلت الكرة في ملعبه، حيث لا حاجة للتعقيدات أو الترفع أو إيجاد معاني أكثر سموًا، فالألفاظ الحميمة أو المرحة أو "الحرشة" ستجد طريقها لأغانيه بسهولة ودون تهذيب.

ولأنها ارتبطت بالشارع فقد اشتبكت في اللاوعي بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بشكل جعله بالنسبة لعوام الشارع المصري الفنان رقم واحد على الساحة الموسيقية. برز ذلك في أغاني مثل "كركشنجي" و"سلامتها أم حسن" و"أم عبده فين"، و"أديك تقول مخدتش"، وصولًا إلى "زحمة يا دنيا زحمة". كان للأخيرة أثر تحريضي واسع الانتشار لأغنية شعبية على جمهورها، فقد كان سائقو المركبات المختلفة يغنوها لضباط وشرطة المرور، مما أدى لغضبهم الشديد، ووصول تقارير للرئيس الأسبق محمد أنور السادات حينها عن تلك الظاهرة، ليوجه بنشر النظام بالشارع المصري مروريًا بحملات مكثفة. 

الركيزة في حقبة السبعينيات

رغم أنه لا يوجد تاريخ ثابت واحد لمعظم أغاني عدوية، ولكن الفترة التي شهدت إصدارات مجمّعة أو ألبومات مميزة له، كانت من منتصف السبعينات وحتى مطلع الثمانينات بألبومات مثل "مجاريح" 1974، والذي ضمَّ مواويل "موال الزمن"، "موال العيش والملح" و"موال الخميس" وغيرها. أو البوم "بص شوف عدوية بيعمل إيه؟" في عام 1975، وشمل "ياختي سملتين" و"بنج بنج بنج" و"بلاش اللون ده معانا". كما ضم ألبوم كركشنجي عام 1977 موال "أنا صابر"، وموال "بحب خمسة".  

وامتدت ثورة عدوية الموسيقية الى تسميات الألبومات، إذ لم يكن من السائد أن تحمل ألبومات فنان تسميات مثل هتاف "بص شوف (فلان) بيعمل إيه" أو مواويل (فلان) أو سهرة مع (فلان)، بهذه الكثافة، حيث كان كل شيء ممكنًا طالما كانت له جدوى فنية موسيقية وتجارية، وقد عمل عاطف منتصر وعدوية على تنفيذ هذه الرؤية وتحقيق هذه الجدوى، إلى الحد الذي أصبح معه عدوية محطة في الأغنية الشعبية المصرية يصعب الرجوع إلى الزمن الذي كان قبلها، وقد مهدّت لصوت الشعبي المصري لعقود تالية طريقًا للقبول والانتشار.

+ اقرأ المزيد عن
أحدث المواضيع