استطاع محمد فوزي رغم مسيرته الفنية القصيرة نسبيًا، أن يكون واحدًا من رواد التجديد في الموسيقى والغناء. فقد كان فنانًا شاملًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ونجح نجاحًا كبيرًا في كل ما قدّمه سواء التلحين أو التمثيل أو التأليف والإنتاج السينمائي. وحتى عندما أراد أن يقتحم المجال التجاري ويؤسس أول شركة اسطوانات في الشرق الأوسط لدعم الاقتصاد المصري وتوفير العملة الأجنبية، كان النجاح حليفه. لكن بقدر ما شهد من فترات ازدهار وتقدير، بقدر ما صعبت ظروفه في أواخر أيام حياته.
البدايات وحلم السفر إلى المدينة الصاخبة
سرى الفن في دم محمد فوزي، وظهرت عليه الموهبة في سن صغيرة، إذ تعلّم أصول الموسيقى على يد أحد أصدقاء والده الذي كان يصحبه للغناء في الموالد والأفراح. ظهر واضحًا عليه تأثره وحبّه لأغاني عبد الوهاب وأم كلثوم التي كان يرددها وقتها، كما أحب آلة العود التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من كيانه لاحقًا.
رغب بعدما أنهى دراسته الإعدادية أن يغادر مسقط رأسه بمحافظة الغربية، ويسعى وراء حلمه بالذهاب إلى القاهرة التي كانت بمثابة وجهة تحقيق الأحلام لأهل الفن. كان هدفه حينها الالتحاق بمعهد فؤاد الأول للموسيقى، ورغم أن والده رفض الفكرة، إلا أن ذلك لم يزده إلا إصرارًا، فذهب دون رغبة أبيه ودون أي دعم مادي يُذكر غير جنيه واحد كانت ترسله إليه والدته دون علم أبيه، ولصعوبة ظروفه المعيشية في ذلك الوقت ترك المعهد بعد سنتين قبل أن يتمم دراسته.
الطريق لم يفرش بالورود
قام في ذلك الوقت بالعمل في إحدى فرق المسارح الليلية، وتنقّل بين الفرق حتى وصل إلى واحدة من أشهر الفرق وقتها وهي فرقة بديعة مصابني. تعرّف هناك على فريد الأطرش ومحمد عبد المطلب والملحن محمود الشريف، ومن هنا بدأت صداقتهم وشاركهم في تلحين وغناء الاسكتشات والاستعراضات، الأمر الذي ساهم في تطوير أسلوبه التلحيني. أسوة بفريد الأطرش الذي سبقه بعامين، تقدّم لامتحان الإذاعة كمطرب وملحّن، ففشلَ كمطرب ونجح كملحّن. رغم ذلك ظلَّ الغناء هدفه الأول.
شاءت الأقدار أن يكون فوزي بديلًا للمطرب إبراهيم حمودة بطل مسرحية "شهرزاد" لسيد درويش. إلا أنه، وفي عرضه الأول، لم يكن مستعدًا بالقدر الكافي ففشلَ العرض، وانهالت عليه الانتقادات من الجمهور، الأمر الذي أصابه بالإحباط وجعله يتوارى عن الأضواء لفترة.
عرضت عليه بعدها فاطمة رشدي التي آمنت بموهبته، العمل في فرقتها مغنيًا وممثلًا وملحنًا فقبلَ عرضها، وجاءته الفرصة التي طالما انتظرها في عام 1944 عندما عرض عليه يوسف وهبي دورًا صغيرًا في فيلم "سيف الجلاد"، وتضمن العرض غناءه أغنيتَين من ألحانه، وبالفعل استطاع لفت الأنظار إلى موهبته.
ظهوره على الشاشة الكبيرة ومرحلة الإنتاج
كانت السينما بمثابة التذكرة الذهبية التي ربحها محمد فوزي، فقد جمعت بين مواهبه الثلاثة فلم يترك عملًا دون أن يقدّم له ألحانه وأغنياته، وساهم ذلك في أن يتعرّف الجمهور عليه أكثر. كان محمد فوزي من أكثر المطربين الذين قدّموا أفلامًا سينمائية برصيد أكثر من خمسة وثلاثين فيلمًا، وصعد بسرعة الصاروخ وقدّم أولى بطولاته عام 1946 في فيلم "أصحاب السعادة".
اشترط مخرج الفيلم عليه إجراء جراحة تجميلية لشفاهه للحصول على الدور فوافق على الفور، وبالفعل حقق الفيلم نجاحًا كبيرًا، وأغراه هذا النجاح ليبدأ فصلًا جديدًا باستثمار ما استطاع جمعه من أموال في الإنتاج السينمائي. في عام 1947 أسّس شركة أفلام محمد فوزي، وأنتج أغلب أفلامه لنفسه، كما أنتج لغيره مثل فيلم "الغائبة" الذي كان من بطولة مريم فخر الدين وكمال الشناوي، و"فتوات الحسينية" الصادر عام 1954 الذي كان من بطولة أخته هدى سلطان وزوجها فريد شوقي. كان هذا الفيلم بمثابة عربون صلح بعد قطيعة بينه وبين أخته استمرّت لسنوات، بسبب رغبتها دخول المجال الفني واعتراضه على ذلك، لكنها بعد تعرضه لوعكة صحية ذهبت إليه وتصالحا وأنتج لها هذا الفيلم بعدها، كما أنه ألّف الموسيقى التصويرية للفيلمَين.
تربّع فوزي على قلوب الجماهير في فترة الأربعينيات والخمسينيات بأفلامه المرحة الخفيفة وطلته المبهجة، وخصوصًا في الفترة ما بين العام 1947 والعام 1954، وكان أبرزها ظهور له في فيلم "العقل في أجازة"، وقد قدّم من خلاله شادية للمرة الأولى لمخرج العمل حلمي رفلة، ليسند إليها دورًا في فيلمه ويكون بداية انطلاقتها الفنية، إلى جانب أفلام أخرى مميزة مثل "فاطمة وماريكا وراشيل" و"الزوجة السابعة" و"الآنسة ماما" و"دايمًا معاك".
ورغم أنه لم يقدّم في الفترة من العام 1955 إلى العام 1959 سوى أربعة أفلام فقط، آخرها "ليلى بنت الشاطئ" و"كل دقة في قلبي"، إلا أنه ألّف ثلاثة أفلام أنتجها بنفسه وهي "معجزة السماء" و"من أين لك هذا" و"كل دقة في قلبي".
لمساته الفنية في الألحان والأغنيات
اتّسمت ألحان فوزي بالبساطة والصدق، فقد كانت نتاجًا لكل ما مرَّ به ورآه في حياته، بدايةً من الموالد التي اعتاد حضورها والغناء فيها في صغره، مرورًا بالفترات القاسية التي عاشها في صباه عندما انتقل إلى القاهرة، وحتى مراحل الفشل التي مرَّ بها، حتى أصبح اسمًا كبيرًا في عالم الموسيقى، يقدّر فنه الكبير والصغير. كان أكثر ما يميز ألحانه الخفة والمرح، ولم يقف إبداعه عنده فلحّن لفنانين آخرين مثل محمد عبد المطلب أغنية "ساكن في حي السيدة"، وليلى مراد أغنية "يا أعز من عيني"، والديو الشهير بينها وبين فوزي "شحات الغرام" من فيلم "ورد الغرام".
كان واحدًا من أحلام حياته منذ الطفولة أن يلحّن لكوكب الشرق أم كلثوم أغنية، لكن ورغم علاقتهما الوطيدة لم يحدث ذلك. وقد حكى الراحل بليغ حمدي عن واقعة تظهر مدى نبل وأخلاق محمد فوزي، فحين كان بليغ شابًا صغيرًا في بدايته، وسمع عنده الكلمات التي كتبها عبد الوهاب محمد لأغنية "حب إيه"، وكانت من المفترض أن تكون أول تعاون بين فوزي وكوكب الشرق، ذهب بليغ إلى فوزي في اليوم التالي وكان قد لحّن الأغنية بالفعل، فما كان من محمد فوزي إلا أن أخذ اللحن كما وضعه بليغ وأسمعه لأم كلثوم. وعندما أبدت الست إعجابها به، صارحها بأن اللحن يعود إلى ملحّن شاب اسمه بليغ حمدي، ليكون محمد فوزي السبب في أول تعاون بين بليغ وأم كلثوم.
أما من الأغنيات التي لحنها فوزي لنفسه وما زالت عالقة بأذهاننا هناك "مال القمر ماله" و"ليا عشم وياك يا جميل" و"فين قلبي"، وقد جمعت كلها بين الألحان الشرقية وبعض التأثيرات الغربية. كما أبدع في أغنية "طير بينا يا قلبي" التي أدخل في إيقاعها صوت خطوات الحصان على الأرض، فكان مبتكرًا دائمًا، ويحاول استنباط موسيقى جديدة من كل شيء حوله. كما كان فوزي أول فنان يقدّم أغنية من دون أوركسترا موسيقية على طريقة الأكابيلا، حيث اكتفى بأصوات الكورال فقط، وهي أغنية "كلمني طمني" التي قدمها عام 1956 في فيلم "معجزة السماء".
ظهرت عبقريته وتنوعه الموسيقي عندما صاغ ألحانًا لأغنيات الفرانكو آراب، والتي من أشهرها "يا مصطفى يا مصطفى" التي غناها بوب عزام. كما كان أول من اهتمّ بتقديم أغنيات للأطفال ما زالت حاضرة حتى وقتنا هذا، أبرزها "ماما زمانها جاية" و"ذهب الليل". حرص بعد ثورة يوليو 1952 على تقديم الأغنيات الوطنية مثل "بلدي أحببتك يا بلدي"، كما كان له بصماته خارج القطر المصري، فلحّن النشيد الوطني الجزائري "قسمًا" الذي كتبه الشاعر مفدي زكريا. ورغم أنه لم يقع الاختيار على فوزي منذ البداية، إلا أنه لبّى النداء عندما أتته الفرصة، ولم يتقاضَ عنه أجرًا.
صراعه مع الدولة والمرض
في عام 1958 أسّس فوزي شركة مصر فون، وهي أول مصنع لإنتاج اسطوانات الموسيقى في الشرق الأوسط، وتعاقد من خلالها مع أكبر وأفضل الأصوات المصرية. كانت بداية نشاط الشركة مع محمد قنديل، ثم نجح بعدها في إقناع أم كلثوم بالتعاقد معه لمدة ثلاث سنوات تقدّم خلالها تسع أغنيات، كما خصص لها في سابقة تعدّ الأولى من نوعها حوالي 27.5% من إجمالي مبيعات الاسطوانات. حققت الشركة نجاحات غير مسبوقة، واستطاعت منافسة كبرى الشركات العالمية. لكن الضربة جاءته من حيث لم يتوقع، وصدر قرار بتأميم الشركة بعدما وضع فيها كل ما يملك من أموال، وتم تعيينه فيها مديرًا براتب 100 جنيه شهريًا.
تكاثرت الأقاويل وقتها، وقيل إن علاقته باللواء محمد نجيب هي السبب في هذا القرار، خصوصًا أن شركة صوت الفن التي امتلكها عبد الحليم حافظ ومحمد عبد الوهاب لم يسرِ عليها هذا القرار. ورغم أن فوزي كان بعيدًا كل البُعد عن الحياة السياسية، إلا أنه انكوى بنارها أو لم يحسن قراءة المشهد وقتها. في ظل هذه الأزمة أصابه الإحباط والاكتئاب، وأعياه المرض الذي احتار فيه الأطباء، وكان خامس شخص بالعالم يصاب به وقيل فيما بعد إنه مرض سرطان العظام، وظل يتردد على المستشفيات أملًا في أن يجدوا حلًا لآلامه، وكان وقتها لا يمتلك المال الكافي للسفر للعلاج في الخارج، وإن كان يحظى بمساعدة مادية من أصدقائه المقربين ومنهم فريد الأطرش، حتى صدر قرار علاجه على نفقة الدولة بعدما توسطت له أم كلثوم بنفسها عند الرئيس جمال عبد الناصر. لكن القرار جاء بعد فوات الأوان، فكانت حالته قد تراجعت، وتوفي في 20 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1966 عن عمر يناهز الـ 48 عامًا.