في وقت سابق من هذا الشهر، خرج "تقرير الموسيقى العالمية 2025" عن الاتحاد الدولي لصناعة التسجيلات الصوتية IFPI، محتفيًا بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بوصفها أسرع أسواق العالم نموًا في إيرادات الموسيقى المسجلة، ومشيدًا بنمو بلغ 22.8% في عام 2024. كان عنوانًا مثيرًا -لكن وراء إثارته تكمن قصة أخرى أكثر واقعية: إن كل إيرادات منطقتنا العربية، والمقدرة بـ 144 مليون دولار سنويًا لا تتجاوز نصف بالمئة من الإيرادات العالمية، التي تبلغ قرابة الـ 30 مليار دولار.
هذه الإحصائيات تؤكد على أننا سوق ناشئة، مليئة بالإمكانيات، لكنها تشير أيضًا إلى المجهود الهائل الذي ينبغي أن تبذله جميع عناصر الصناعة.
أين نحن من الإيرادات العالمية؟
ليست هذه المرة الأولى التي تحتل فيها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مركز الصدارة في قوائم النمو، وقد تبعتها منطقة دول أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مدفوعة بالجاذبية العالمية للأفروبيت، حيث حققت نموًا بلغ 22.6%. مع ذلك، تظل حصة هاذين السوقين ضئيلة إذا ما قورنت بحصة الأسواق الخمس الأكبر من السوق العالمية:
- أمريكا وكندا: 40%
- أوروبا: 29.5%
- آسيا (اليابان والصين وكوريا الجنوبية والهند): 22.3%
- أمريكا اللاتينية (المكسيك والبرازيل): 3.5
- أستراليا: 2%
والسؤال هو: كيف يمكن لمنطقة يسكنها قرابة 500 مليون إنسان أن تصعد إلى الأسواق الخمس الأعلى عالميًا؟
أزمة الاشتراكات في المنطقة العربية
في الأسواق العالمية، تولِّد الاشتراكات المدفوعة قرابة 74% من الإيرادات، برغم أنها مسؤولة فقط عن نصف عدد المستمعين. لا توجد أرقام دقيقة في المنطقة العربية للمقارنة، لكن بعض التقارير المعلنة تشير إلى أن نسبة المشتركين أقل بكثير. فلماذا لا يبدي المستهلكون في منطقتنا استعدادا أكبر للدفع مقابل اشتراكات الموسيقى؟
إن تعداد سكان المنطقة يتجاوز تعداد أمريكا وكندا مجتمعتين. مع ذلك، فإيرادات الاشتراكات لا تتجاوز 1.1% من إيرادات سوق أمريكا الشمالية. وحتى داخل المناطق الأكثر ثراء، مثل دول مجلس التعاون الخليجي، يظل عدد المشتركين أقل من الأسواق الأصغر في أوروبا وأمريكا اللاتينية.
التنويع الموسيقي
في تقرير نشر عام 2022 حول منصة أنغامي، ظهر أن الموسيقى العربية لا تشكل أكثر من 1% من مكتبتها الموسيقية ولكنها تمثل 60% من نسبة الاستماع. هذا يعني أن إيرادات الموسيقى في منطقتنا تقسم تقريبًا بالتساوي بين فنانين عالميين وفنانين عرب.
هل يعني هذا أن المستمعين العرب يفضلون الفنانين العالميين مثل بيلي إيليش أو كندريك لامار على شيرين عبد الوهاب أو ويجز؟ إن فهم تفضيلات المستمعين عامل حاسم للتنبؤ باتجاهات السوق المستقبلية ودعم نمو الفنانين المحليين.
نستطيع أن نرى التأثير الواضح للموسيقى العالمية على الثقافة الموسيقية في منطقتنا، إذ تكتسب جنرات مثل البوب والهيب هوب والأفرو والروك البديل المزيد من الزخم في الموسيقى العربية. وفي صدارة هذا التحول نجد فنانين مثل كايروكي وديستانكت وإليانا وويجز، يمزجون الموسيقى العالمية بعناصر عربية. بل إن نصف الفنانين الموجودين في قائمة بيلبورد عربية 100 فنان هم تقريبًا من المواهب الصاعدة الذين يجربون هذه الأشكال من الدمج. هذا التطور يمثل فرصة مهمة لتنويع الموسيقى العربية إلى ما وراء الطرب التقليدي والبوب المعتاد، فتجذب جمهورًا عالميًا من المستمعين، وتوسع نصيب المنطقة من التنوع الموسيقي، والجمهور، وحصة السوق الإجمالية.
ليس بالبث وحده تحيا الموسيقى
من أجل نمو مستدام، يحتاج الفنانون إلى إيرادات تتجاوز البث -مثل الحفلات الحية، والبضائع الترويجية، وحقوق النشر، وشراكات مع العلامات التجارية. في عام 2022 قدرت قيمة سوق الموسيقى إجمالًا في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بـ 200 مليون دولار، حيث كانت الفعاليات الحية، والنشر، والبضائع الترويجية، واتفاقات العلامات التجارية تشكل قرابة 50% من إجمالي القيمة السوقية.
هذا أيضًا يعكس فرصة كبيرة للفنانين كي ينوّعوا موارد الإيرادات محليًا وعالميًا من خلال الحفلات والتعاون بين العلامات التجارية التي شهدت حركة مهمة في المنطقة، علاوة على بداية واعدة للترويج والنشر.
كيف نستغل الصحوة الموسيقية السعودية؟
لقد شهدت الموسيقى الحية نموا مهما في المملكة العربية السعودية، مدفوعًا برؤية 2030 وتركيزها على التنمية الثقافية. إذ أصبحت مركزًا لصناعة الترفيه، يستضيف مهرجانات وحفلات موسيقية كبيرة يظهر فيها فنانون من المنطقة والعالم. وتُظهر أسماء مثل "مدل بيست" و"بنشمارك" علاوة على شركة "روتانا" الدور المتزايد للمملكة في صناعة الموسيقى.
أما خارج المملكة، فتلعب مصر ولبنان والأردن والإمارات والمغرب دورًا حيويًا في مشهد الموسيقى الحية في المنطقة، بمهرجانات مرموقة مثل "موازين" و"قرطاج" وفعاليات محلية مزدهرة. علاوة على ذلك، نجد شركات ترفيه عالمية مثل "لايف نيشن" و"KEME" و"باك ستيج" تنظم جولات عالمية لنجوم الموسيقى العرب خارج المنطقة، داعمةً فنانين مثل الشامي، وإليسا، وكايروكي، وتوو ليت، ومحمد حماقي، ورامي صبري، وغاي مانوكيان وغيرهم.
قوانين النشر وحقوق الملكية
على الجانب، يظل قطاع النشر غير الناضج أحد الحواجز المهمة أمام تطوير صناعة الموسيقى في المنطقة. إذ نجد كتاب الأغاني والملحنين كثيرًا ما يصارعون من أجل الحفاظ على حقوق الملكية بسبب غياب البنية التحتية والأطر القانونية. ولعل الانتباه إلى هذا الأمر والشروع في معالجته يعزز على نحو كبير قيمة السوق إجمالًا، ويرجع بالفائدة على الفنانين بشكل مباشر.
التفاوتات الاقتصادية
كذلك تؤثر التفاوتات الاقتصادية في المنطقة على تدفق الإيرادات. إذ نجد أن الفنان الذي تصل أغنيته إلى مليون مرة استماع يحصل على إيراد أقل من أقرانه في الخليج ممن يصلون إلى الرقم نفسه، بسبب اختلاف معدلات "التكلفة لكل بث". هذه القضية ليست مقتصرة على الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بل هي ظاهرة عالمية. لكن على الفنانين العرب أن يعملوا على توسيع قاعدتهم الجماهيرية على نحو استراتيجي لكي يحققوا مكاسب أكبر ويتجنبوا قيود السوق.
الطريق إلى الأمام
الاحتفاء بالنمو الذي تشهده منطقتنا أمر مهم، لكن ينبغي علينا ألا نغفل ما يقف أمامنا من تحديات. إننا في مفترق طرق: إمكانيات هائلة لكنها مقيدة بنمو الاشتراكات، والتفاوتات الاقتصادية، وتفضيلات المستمعين، والبنية التحتية الضعيفة. ولكي نرى المنطقة العربية تصعد إلى قائمة أعلى 5 أسواق موسيقية على مستوى العالم، فإننا نحتاج إلى:
1- زيادة اشتراكات الموسيقى المدفوعة- من خلال تشجيع المستهلكين على تبني هذه الطريقة في الاستماع.
2- توسيع وتنويع الإنتاج الموسيقى: لردم الفجوة بين العرض والطلب وتلبية مختلف الأذواق.
3- تعزيز قوانين النشر وحقوق الملكية: من أجل تعويض عادل للفنانين.
4- استغلال الطفرة الموسيقية في السعودية" استخدام الحفلات والمهرجانات للترويج للموسيقى العربية عالميًا.