كان عبادي الجوهر طفلًا يتدرب من 7 إلى 9 ساعات يومياً على العود منذ أن كان في الحادية عشر من عمره، لكن الموسيقى كانت بالنسبة له هواية ولا يرغب باحترافها؛ وحين سأله النجم الكبير حينها طلال مداح عن طموحه أخبره أنه يريد أن يدخل السلك العسكري!
هكذا كانت حكاية دخول عبادي الجوهر إلى عالم الفن، وقد رددها مرارًا في المقابلات التلفزيونية، ليتحدث بكل مرة بذات الشغف عن لقائه الأول بطلال مداح، بترتيب من الشاعر لطفي زيني.
في سن الرابعة عشر تغيرت أحلام عبادي الجوهر وبدأ مسيرته الموسيقية، ليتنقل بين جدة وبيروت لتسجيل أعماله. أطلق عليه طلال مدّاح لقب أخطبوط العود لمهارته الاستثنائية في العزف.
في عيد ميلاد عبادي الجوهر الثاني والسبعين، نحتفي بواحد من أبرز الأصوات التي شكّلت ملامح الأغنية السعودية المعاصرة، والذي قدّم عبر مسيرته تجربة موسيقية اتسمت بالثبات والالتزام، والبحث عن الجمال في أبسط التفاصيل.
التلميذ يلحن للأستاذ
تطورت علاقة الجوهر بالعود سريعًا، ليبدأ بالتلحين لنفسه بعد ثلاث سنوات، ويُقدم عام 1970 أغنية "أحبها"؛ أول أغنية لحنها بنفسه. غير أن النقلة النوعية في مشواره تحققت بعد عدة سنوات عندما لّحن لأستاذه ومكتشفه طلال مدّاح واحدة من أشهر أغانيه عام 1978، وهي أغنية "طويلة يا دروب العاشقين" من كلمات الأمير بدر بن عبد المحسن. جاء ذلك بعد سنتين من انفجار نجوميته في جميع أرجاء دول الخليج العربي، حين شارك في حفل دورة الخليج الرابعة في قطر، التي بُثت على شاشات جميع الدول المشاركة.
ولم يقتصر انتشار الجوهر على دول الخليج العربي، بل صار سفيرًا للأغنية السعودية في باقي بلاد الوطن العربي. فرغم حضوره الدائم في عواصم الموسيقى مثل القاهرة وبيروت، ظل عبادي الجوهر حريصًا على أن يبقى صوته صوتًا سعوديًا، يغني بلهجة بلده.
لم يكن ذلك موقفًا فنيًا فقط، بل رؤية واضحة تجاه ما يريد أن يقدمه، ورغبة في إيصال جماليات الأغنية السعودية كما هي، دون تذويبها في تجارب بعيدة عنها. سُئل ذات مرة إذا كان يرغب في أني يغني من ألحان محمد عبد الوهاب، فأجاب أنه يفضّل تقديم الأغنية السعودية للناس، لا البحث عن ألحان من خارجها.
الجوهر بين التلحين والغناء
دخل الجوهر عالم الإنتاج الموسيقي عندما أسس شركة "أوتار للإنتاج الفني" عام 1984، ليبدأ إنتاج ألبوماته بنفسه. ورغم أنه قد أنتج خلال رحلته الفنية الطويلة 52 ألبوماً، وقدم بصوته العشرات من الأغاني التي تحولت إلى هيتات لا تُمحي من ذاكرة جمهور الأغنية الخليجية، مثل "من عذابي" و"مزهرية" و"مليت" و"المرايا"، إلا أن شهرته الأساسية جاءت من كونه ملحن لا يشق له غبار.
تحدّث محمد عبده في إحدى اللقاءات التلفزيونية عن إمكانيات الجوهر الموسيقية الاستثنائية، وذكر بأن "حسّه الموسيقي والتلحيني أكبر من إمكانياته الصوتية" ، وهو رأي شائع وإن كان لا يبدو منصفاً. فصوت عبادي الجوهر له سحر خاص، ينقل المشاعر بواقعية ويجعلك تغوص معه في أحزانه. وقد يكون للظروف والأحداث الأليمة التي اختبرها الرجل في حياته الشخصية أثر في الإحساس العالي والتماهي مع الحالات التي يقدمها أداؤه الصوتي. أغاني مثل "قالوا ترى" و"من عذابي" هي خير مثال على ذلك.
براعة الجوهر في التلحين لم تتحول إلى أعمال مشتركة بالقدر الكاف رغم تهافت الفنانين على التعاون معه، إذا بقي تركيزه منصباً على التلحين لنفسه مع تقديم تعاونات انتقائية تحول معظمها لمحطات هامة في مسيرة من غنوها. سمعنا ألحانه بصوت رابح صقر وأحلام وعباس إبراهيم وغيرهم. لكن أبرز وأشهر ألحانه للفنانين هو لحنه لـ أصالة في "قد الحروف"، التي أدّتها على غير عادة أغانيه باللهجة المصرية، فأوصلت موسيقاه لشرائح أوسع من الجمهور.
أثر مستمر لأكثر من خمسة عقود
في عام 2024، جاء افتتاح مسرح "عبادي الجوهر أرينا" في جدة كتقدير لفنان له تأثير مستدام، ولا يزال حاضرًا بعطائه وتأثيره الممتد على أجيال مختلفة؛ فعبادي الجوهر الذي يعتبر رمزًا من رموز الموسيقى السعودية لايزال حتى اليوم قادرًا على العطاء والمنافسة في سوق الموسيقى الخليجية، حيث سجّل اسمه في عام 2024 على قوائم بيلبورد عربية، كأكبر مغني يدخل إلى قائمة أعلى 50 أغنية خليجية.
يوضح لنا ذلك أن فرادة عبادي الجوهر تكمن في كونه جسرًا بين عدة أجيال؛ فقد حافظ على أصالة الأغنية السعودية، ومهّد الطريق لأجيال جديد من الفنانين، الذين تربوّا على إبداعاته واستلهموا منها الكثير.