شارك المئات ممن حضروا حفل الرابر الفلسطيني شب جديد في برلين نهاية فبراير مقاطع مسجلة من هواتفهم لأغنية قدمها على المسرح للمرة الأولى، لتنتشر على السوشال ميديا كالنار في الهشيم، ما دفع الرابر للمسارعة بإصدارها قبل أيام على يوتيوب بنسخة الحفل قبل نسخة الاستديو الرسمية، تحت عنوان "حسد".
توقيت ومكان أداء هذا التراك الجديد للمرة الأولى بدا مثالي السياق. شباب مغتربون من بلاد الشام ومجمل العالم العربي تجمهروا في العاصمة الألمانية لحضور الرابر صاحب الخطاب السياسي الأبرز في السنوات الماضية، فلم يخيب أملهم وافتتح التراك الجديد مباشرةً بالحديث عن سقوط النظام السوري لتتعالى هتافات وتصفيق الجمهور، قبل أن ينتقل للحديث عن المظالم عامةً: "إحنا نضلنا نحارب لنموت/ كيف يصبح شارع تابوت/ مرصوص متروس عالناس الزيي".
خلال يومين تبعا الإصدار سمعت الأغنية –بلا مبالغة- عشرات المرات. كلما انتهى التراك أعدته من البداية. بكيت طويلًا كلما وصل المقطع الذي يقول فيه: "أملي يشعل مهجتي/ وإرهاب العالم ورثتي/ والسيف القاطع لعبتي/ والصوت الهادر بحكي فيه/ تعلقش معاي نصيحة إحنا كبرنا نموت ونكد/ عم نقرع جدران الخزان طب هل من أحد؟" وفكرت: شب جديد هذا هو أحمد فؤاد نجم جيلنا!
نزالات الراب في التراث العربي
قد يجد البعض أن إطلاق وصف شاعر على الرابر المعاصر أمر مبالغ فيه، أو حتى مثير للسخرية. لكن مصطلح "RAP" الذي دخل اللغة الإنجليزية مع ولادة الجنرا، كان اختصارًا لكلمتي الشعر والإيقاعات Rhythms and Poetry. وبينما الإيقاعات الإلكترونية بتفرعاتها هي العنصر الحديث في هذا اللون الموسيقي، فإن الشعر كان حاضرًا منذ الأزل.
ينظر كثيرون للراب كلون موسيقي غربي تم تصديره إلينا، لكن أسلوب كتابة الراب وثيماته الأساسية لها جذور حاضرة في الثقافة العربية قبل أن تولد لفظة "راب" بقرون. ظاهرة تبادُل الأبيات بين شاعرين بغرض الهجاء أو التبجح والتفاخر حضرت منذ الشعر الجاهلي، فتذكر لنا كتب التاريخ مكانًا مثل "سوق عكاظ" الذي استمد اسمه من اجتماع الشعراء فيه من كل مكان لمدة، فيتبادلون أبيات تتمحور حول المفاخرة أو الخصومة.
وحتى مع الوصول للشعر الإسلامي، لا زلت أذكر حتى اليوم من الكتب المدرسية، أبيات الهجاء على لسان شعرائه الأشهر مثل جرير والفرزدق. فتعود إليّ في كل حين أبيات جرير في هجاء الراعي النميري، حين قال له: "أعد الله للشعراء مني/ صواعق يخضعون لها الرقابا/ فغض الطرف إنك من نمير/ فلا كعبًا بلغت ولا كلابا". أو قول الفرزدق: "أباهل إِنَّ الماءَ ليس بغاسلٍ/ مخازيَ عَنكم عارها غيرُ ذاهبِ/ وإن سبابيكم لجهل وأنتم/ تباعون في الأسواق بيع الجلايب".
ألوان موسيقية أكثر حداثة احتفظت بكل هذه الثيمات الشعرية وردفتها بالموسيقى، كما نسمع في موسيقى الزجل التي خرجت خلال القرن الماضي من بلاد الشام. في الزجل، كان يجلس شاعران على المسرح أمام الجمهور، كل منهما محاط بمرافقيه الموسيقيين الذي يضبطون إيقاع زجله بالدفوف والرق، فيما يهجي واحدهما زميله بفصاحة وطلاقة. ولم يمنع أداؤهما باللهجة العامية حينها من إطلاق تسمية الشعراء على هؤلاء "الزجَّالين".
أدركت ذلك حين أهداني خالي (المستهزئ بموسيقى جيلي) صندوقًا ضم عشرات شرائط الكاسيت لجلسات زجل مسجلة بين شعراء من سوريا ولبنان. داخل الصندوق وجدت شريطًا عكس أوج تلك الحقبة، إذ سجّل الحفل الأكثر أيقونية في تاريخ الزجل في دير القلعة في قرية بيت مري اللبنانية، وضم العديد من الشعراء الذين خاضوا نزالات شعرية. كان الأبرز ليلتها مواجهة الشاعر موسى زغيب مع الشاعر زغلول الدامور التي أشعلت حماس الجمهور لسنوات لاحقة، وتناولها الجمهور والنقاد بالتحليل.
في افتتاحيتها يتوجه موسى زغيب لخصمه قائلًا: "طلقتْ فكري بجوانح نسر أسمر/ وصاروا يرفعوني ويرفعوني/ حتى صرت شوف الأرض أصغر/ من اللِي ع التحدي بيطِلبوني... شفت ع جبهتك مسحة كآبة/ ابتدا ع شيبتك يشفق شبابي/ احتجز حملانك بقلب العمارة/ قبل ما يِفلَتو عليهن ديابي".
أما في رد زغلول عليه، فتوجه بالحديث للجمهور قائلًا: "ويا أنصار الزجَل والعبقريِّي/ ضروري تناصروا موسى عليِّي/ لأنـَّو بعد بدُّو كتير يطلَع/ تا يوصل للسماوات العليِّه/ ضروري تزقّفوا لكلّ مطلع/ ضروري يشوف جنبو الأكثريَّه/ ضروري عا عيونو الضَوّ يطلع/ صلاة الصبح أفضل من عشيِّه."
ومع مراعاة مرور أكثر من ألف عام بينهم، إلا أنني لا أجد اختلافًا بين هجاء جرير والفرزدق، أو بين نزالات الزجالين زغيب وزغلول، وبين "دس" شب جديد ضد مسلّم: "مش مستعد أتحسر/ بس مستعد أحط إيديّ فجيابي وأشوف عضمك بتكسر/ أنا مكفهر بشطر ع نيابي بفوت بطلعش بمسخر/ أبوي رباني أتمزعر/ وأنا مستقر بمشيش لحالي وراي حراس صف عسكر".
أو حتى "دس" ويجز ضد محمد رمضان في تراك "دورك جاي" الذي أصبح الدس الأكثر جماهيرية في الراب العربي: "بفِّتنا تعاشر المظابيط يا سُمك شعرة يا مصابيح/ ضباع بسعر المقاطيع/ لو إنت بابا طب أنا مين؟/ مش نفس اللون، ما نتساويش / يا لحمة نية ما تستويش/ قلِّبت الحلو النسكويك/ صدري واسع وأحتويك".
وكما في حالة سوق عكاظ، وبلاط الملوك، ومن ثم مسارح الزجل حيث التقى المتخاصمون، استعرض الرابرز قدراتهم على الأداء والمواجهة و"الفريستايل" في منصات مثل "الأرينا" في لبنان أو "يا تراب يا تموت" في مصر، التي احتضنت صعود المشهد في المنطقة، وأسست لسمعة رابرز مثل درويش والسينابتيك وآرسنيك.
على غلاف شريط الكاسيت الذي وجدته لحفلة بيت مري كُتب "35 ألف متفرج"، أي عدد الجمهور الذي حضر النزال الشعري عام 1971، وهو رقم ليس بهين أن يجتمع في تلك القرية الصغيرة، ولا يسهل تحقيقه اليوم -بعيدًا عن البوب- حتى في مسارح المهرجانات الأضخم في المنطقة. لكني أعقد المقارنات في ذهني بشكل لا إرادي، فأجد أن هذا الرقم القياسي هو ذاته تقريبًا الذي سجله ويجز بحفله في مركز المنارة بالتجمع الخامس بالقاهرة عام 2021، والذي صنفته صفحات الراب المصري حينها كأكبر حفل لرابر في مصر.
لغة الشارع؟
إلى جانب الاستقبال الجماهيري، أصبحت العديد من تجارب الراب محط دراسة وتحليل النقاد والمهتمين بالشأن الثقافي، ربما لأن توقعاتهم للجنرا الموسيقية وصناعها كانت نمطية في البداية. فالمفترض أن الراب يتحدث لغة الشارع، اللغة التي لطالما تجاهلها النخبويون في المنطقة أو حتى في الغرب. ثم نسمع رابرز مثل شب جديد، الذي يحرص على "شوارعيته" دون أن يمنعه ذلك من الاقتباس في باراته من أدب المقاومة وعبارات غسان كنفاني، أو لمورفين الذي سمعناه في ألبومه الأخير "يقين" يشارك نظرته لأفكار كافكا ودوستويفسكي، أو الراس الذي يغرق في كتب التاريخ ومراجع الثقافة الإسلامية والتفاسير لمدة، ثم يخرج بألبوم راب. (وإن كان الراس استثناءً، وقد احترف الصحافة والكتابة النقدية والبحثية لسنوات قبل دخوله عالم الراب، على عكس معظم الأمثلة السابقة للرابرز الذين بدأوا بكتابة الراب بعد المرحلة الثانوية.)
حين سمعت الرابر التونسي سمارا للمرة الأولى قبل ثماني سنوات، عشت أسابيع طويلة لا أستمع سوى لتراك "ما دايم والو". فكرت طويلًا وتعجبت، كيف يمكن لشاب صغير خارج من حي فقير، باسمه العديد من مذكرات الاعتقال، ويتكلم بلهجة تونسية محلية لا أفهم نصف كلماتها، أن يبث كل هذا الشجن في نفسي كلما سمعت كلماته. أشعرني هذا التراك أني أعرف الكثير عن واقع بعيد، عن علاقة الرابر بـ "الحومة" (الحي) التي خرج منها، عن حياة الشباب من جيله في بلدة منزل بورقيبة بعيدًا عن مركزية العاصمة، والصدام الدائم بينهم وبين سلطة الدولة.
ثم حدث أن كنت في تونس بعد صدور الأغنية بأشهر. ومع الغياب شبه التام لهيمنة البوب هناك، بدا الراب متسيدًا للمشهد الموسيقي. تحدث الشباب وطلاب الجامعات عن سمارا وغيره وعيونهم تلتمع، وكأنه أيقونة شعبية تخصهم وحدهم. بدا لي حينها أن الراب بات ملجأ الشباب، عالم يلتقي فيه الفن والموسيقى مع مساحة للتعبير والحديث عن مواضيع تهمهم، سقف الحرية فيه أعلى من كل أنواع الفنون الأخرى، خاصةً موسيقى التطريب التي لم تعد مواضيعها تتجاوز الحب والفراق. أدركت أن جيلنا قد استبدل فقط الأوزان والبحور، بالـ"بيت" الإلكتروني الذي يضبط إيقاع الأداء، أما الشعر فهو الشعر، يتبدل شكله عبر القرون، لكن جوهره واحد.