في منتصف التسعينيات، حين كانت سوريا تخطو بحذر نحو مرحلة من الانفتاح الثقافي بعد عقود من العزلة الاقتصادية والاجتماعية، برزت فرقة كلنا سوا كأحد أبرز ملامح هذا التحول. كان السياق السوري حينذاك يشهد تغيرًا عميقًا بفعل دخول التقنيات الرقمية الحديثة التي أتاحت للسوريين نوافذ على العالم الخارجي، فبعد أن كانت القناة الثانية السورية الأرضية، ببرامجها المحدودة، تشكل النافذة الوحيدة على الفنون الأجنبية، جاءت أجهزة البث الفضائي لتفتح المجال أمام جيل جديد لاكتشاف الموسيقى والسينما والفنون العالمية.
في هذا الإطار، تشكلت فرقة كلنا سوا عام 1995، لتكون أول فرقة إندي سورية، بالمعنى الدارج للكلمة. انطلق المشروع مع الرباعي إياد الريماوي وبشار موسى وسونيا بيطار وأيهم العاني، الذين انطلقوا من صداقة وشغف مشترك بالموسيقى لتأسيس تجربة جديدة تُدمج فيها اللهجة الشامية بروح الموسيقى الغربية، وسرعان ما توسعت دائرة الفرقة لتضم المزيد من الموسيقيين السوريين الذي يتشاركون بالرؤيا ذاتها. تميزت الفرقة منذ البداية بإصرارها على الاستقلالية، حيث كانت تنتج أعمالها ذاتيًا دون تدخل شركات إنتاج، مما أتاح لها الحفاظ على رؤيتها الموسيقية الخاصة.
كان ظهور كلنا سوا انعكاسًا مباشرًا لمرحلة الانفتاح السوري على العالم، وجاء ليقدم نموذجًا موسيقيًا يمزج بين الإيقاعات الغربية والشرقية، بأسلوب فني جمع بين الحداثة والأصالة. استطاعت الفرقة أن تخلق لنفسها هوية فريدة، حيث قدمت أغاني باللهجة المحلية، بعضها مستوحى من التراث وبعضها الآخر جديد تمامًا، ومختلف كليًا عما كان سائدًا في تلك الفترة.
وبالرغم من التحديات، أصبحت الفرقة رمزًا للجيل السوري الجديد الذي حاول التعبير عن نفسه بطرق مبتكرة، وشكلت خطوة أولى لظهور ثقافة "الباند" في سوريا، وهي ظاهرة لم تكن مألوفة في ذلك الوقت. وخلال رحلتها، قدمت كلنا سوا أربعة ألبومات، ما بين عامي 1998 و2008، وهي بالترتيب: "سفينة نوح" و"شي جديد" و"موزاييك" و"إذاعة كلنا سوا". وقد اخترنا الأول بينها للمراجعة الكلاسيكية في هذا الأسبوع.
الانطلاقة مع "نزلت على البستان"
يتكوّن الألبوم من سبع أغانٍ، وتم افتتاحه بالأغنية الفلكلورية "نزلت على البستان"، التي أعادت فرقة كلنا سوا تقديمها بأسلوب يمزج بين الطابع التراثي والروح الموسيقية الحديثة. انطلقت الأغنية من جذورها البدوية العميقة، التي لطالما أسرت الجمهور ببساطتها وصدقها، لتأخذ شكلاً جديدًا يعيد إحياءها بتوزيع موسيقي معاصر وآلات غربية أضافت إليها طابعًا عالميًا دون أن تفقد هويتها الأصلية.
كانت الأغنية بمثابة الجسر الذي أوصل الفرقة إلى جمهور واسع، إذ لامست قلوب المستمعين في سوريا وخارجها، لتصبح سريعًا من الثوابت في برنامج عروضهم الموسيقية. ورغم أن الأغنية كانت معروفة منذ منتصف القرن العشرين بصوت الفنان الأردني عبده موسى، إلا أن النسخة الجديدة التي قدمتها كلنا سوا، تمكنت من طمس ملامح الأصل لدى الجمهور المعاصر، الذي تبنّى النسخة المعاد توزيعها وحفظها بصيغتها الجديدة. هكذا، أصبحت "نزلت على البستان" رمزًا لبداية نجاح الفرقة واندماجها في وجدان المستمعين العرب. وقد قامت كلنا سوا بتصوير كليب للأغنية، ورغم فقر الإمكانيات، إلا أن الكليب لم يخلُ من الجمالية، التي قد تنبع من ترجمة طبيعة العلاقة بين أعضاء الفرقة، والتلقائية والعفوية التي كانوا يتمتعون بها.
"قاعد حدك": لغة الحب اليومية
بعد "نزلت على البستان"، تنتقل "كلنا سوا" إلى الأغنية الأكثر رومانسية في الألبوم "قاعد حدك"، التي شكلت خطوة جريئة في تقديم موضوع الحب بلغة الشارع السوري اليومية. في وقت كان فيه السوريون يعتمدون على الأغاني اللبنانية والمصرية للتعبير عن مشاعرهم، جاءت "قاعد حدك" لتكسر هذا النمط، مُضفية بُعدًا حميميًا على المشاعر من خلال اللهجة الشامية العفوية التي تحمل دفء الحياة اليومية وصخبها.
كلمات الأغنية تنبض بالبساطة والعاطفة المرهفة، وتُصوّر الحب كملاذ آمن يهرب به الإنسان من هموم الحياة ومشاكلها: "قاعد حدك تأنسى يومي/ أهرب من كل الآهات/ أهرب من حالي شوي الليلة/ أهرب من بين الكلمات/ خليكي حدي تأرجع طفل صغير و نام/ و أغفى ع إيديكي الليلة".
"خاتم تنك": الرومانسية تصطدم بالواقع
بعدها تأتي الأغنية الأكثر إثارة وخصوصية في الألبوم، "خاتم تنك". تبدأ الأغنية بروح رومانسية دافئة تسترجع ذكريات طفولية وأحلامًا بسيطة، حيث الحب وعد غير مشروط. لكن سرعان ما ينكسر هذا الإيقاع بالانحدار نحو واقع قاسٍ، إذ تتحول العلاقة إلى مواجهة مع برودة الزمن وقسوته.
تُبرز الأغنية كيف غيّر الزمن تلك الوعود البريئة إلى علاقات يحكمها الحساب والمنفعة، حيث يصبح الحب ضحية للضغوط الاقتصادية والاجتماعية. عبر كلماتها، ترسم الأغنية صورة واقعية لانهيار الروابط الإنسانية تحت وطأة الفقر، حيث الصداقة والحب يضيعان في دوامة البقاء. "خاتم تنك" تُجسد هذا التناقض ببلاغة، لتحكي قصة أجيال تتأرجح بين الحنين والحقائق المريرة، مما يجعلها من أكثر أغاني الألبوم تعبيرًا عن الصراع بين المثالية وواقع الحياة اليومية: "اذكري يوم اللي كنا صغار/ جبتلك خاتم تنك/ يومها قلتيلي لا تغار/ مارح كون إلا إلك/ و سنين مرت تجر سنين/ هينا التقينا من جديد/ ضاع الهوى و ضاع الحنين/ و قلتيلي ما بذكرك/ لا تتناسي يا عنيدة/ أنا مو راجع إلك/ راجع لأني ع الحديدة/ بدي حق خاتمي وبعتقك".
وفي أغنية "خاتم تنك" تستخدم فرقة كلنا سوا موسيقى الأكابيلا، للانتقال من الحالة الرومانسية الحالمة، إلى اللغة المادية. وتُستخدم الأكابيلا كذلك بافتتاحية الأغنية التراثية الثانية في الألبوم "ع المايا"، التي تعود أصولها لتُراث منطقة الجزيرة السورية والأرياف الفراتية، والتي سبق وأن قدمها المطرب دياب مشهور، ويألفها الجمهور السوري جيدًا. في توزيع "ع المايا" تتجلى قدرة الفرقة على الإبداع الموسيقي رغم تواضع التقنيات، بالتسجيل والميكس والماستر؛ فأصوات أعضاء الفرقة التي ترسم النغمات تُضفي على الأغنية المزيد من الجماليات التي تتوافق بأصواتها الجماعية من حيث المبدأ أيضًا مع جذور الأغنية التراثية.
"سفينة نوح": الرمز والأسطورة
تختتم كلنا سوا الألبوم بالأغنية التي حمل الألبوم اسمها، "سفينة نوح". تحمل الأغنية بعدًا رمزيًا عميقًا يتجاوز حدود التجربة الفردية إلى قراءة شاملة لحالة الخوف والرجاء التي يعيشها السوريون في مواجهة أزمات الحياة. تبدأ الأغنية برؤية سوداوية لعالم ينهار، حيث كل شيء يوشك على الغرق، وحيث الخوف بات رفيق القلوب التي نسيت طعم الأمان. لكن وسط هذه الظلمة، يظهر الأمل كشعاع من نور، ممثلًا بسفينة نوح التي تحمل وعدًا بالخلاص والنجاة.
الطوفان في الأغنية ليس مجرد حدث طبيعي، بل استعارة للحقيقة الكبرى التي تطيح بكل الأقنعة، وتجبر الجميع على مواجهة مصائرهم. النهاية، رغم سوداوية الانطلاقة، تحمل الوعد باللقاء، حيث تفتح الأغنية ذراعيها للغد، وتترك المستمع مع رجاء جديد بأن الحال لن يستمر طويلًا على ما هو عليه، وأن كل نهاية قد تكون بداية جديدة.