في الآونة الأخيرة سيطرت على قوائم بيلبورد عربية أغاني نجوم جيل زِد، ليكون ذلك مؤشرًا واضحًا على قدرة الجيل الجديد على المنافسة عبر الموسيقى الخاصة بهم، والتي تختلف، شكلًا وجوهرًا ،عن الموسيقى التي صنعها الأجيال السابقة. وقبل الحديث عن نجوم الجيل زِد في العالم العربي، والخصائص التي تُميز إصداراتهم الموسيقية، لنتعرّف على جيل زد في البداية.
الجيل زد أو زي (Generation Z) يُعرَف بأنه الجيل المولود بين عامي 1997 و2010، وهو جيل يتميز بنشأته في عصر التكنولوجيا الرقمية والانفتاح على العالم من خلال الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا الانفتاح لم يؤثر فقط على طريقة تفكيرهم وتعاملهم مع الحياة، بل أيضًا على ذائقتهم الفنية والموسيقية.
على الصعيد الثقافي، يُظهر أفراد هذا الجيل رغبة عميقة في التعبير عن هويتهم الفردية، وهم يسعون لاستكشاف كل ما هو جديد ومختلف. سواء في الفن أو الأزياء أو الموسيقى، يميلون إلى الابتعاد عن القوالب التقليدية التي ميزت الأجيال السابقة، ويبحثون عن الأصالة والإبداع. هذا التوجه يظهر بوضوح في المشهد الموسيقي، حيث يمزجون بين التراث المحلي والأنماط الموسيقية العالمية لإنتاج أعمال تعكس تنوعهم الفكري والثقافي.
كما أن الجيل زد يعتمد بشكل كبير على التكنولوجيا في حياتهم اليومية، وهو ما جعل المنصات الرقمية مثل يوتيوب وسبوتيفاي وإنستجرام وتيك توك كمساحات رئيسية لإنتاج الموسيقى ونشرها. هذه المنصات لم تُعد فقط وسيلة للاستماع إلى الموسيقى، بل أصبحت جزءًا من تجربة هذا الجيل للتواصل مع العالم، حيث يشاركون أعمالهم ويتفاعلون مع جمهورهم مباشرةً.
من المهم أيضًا أن نفهم أن لهذا الجيل اهتمامات تتجاوز الفن، فهم أكثر وعيًا بالقضايا الاجتماعية والبيئية، ويتبنون مواقف واضحة تجاهها. هذا الحس بالمسؤولية ينعكس أحيانًا في الموسيقى التي ينتجونها أو يستمعون إليها، حيث يميلون إلى تفضيل الأعمال التي تحمل رسائل تتعلق بالعدالة الاجتماعية أو تمس مشاعرهم الشخصية وتعبر عن تجاربهم الواقعية.
بناءً على ما سبق، نحاول رصد تأثير هذا الجيل على الموسيقى العربية، وكيف نجح في إعادة تشكيل هويتها من خلال إصداراتهم، لنتعمق بخصوصية الموسيقى التي يقدمها والمزايا التي أضافها إلى المشهد الموسيقي الحديث، عبر تجارب النجوم الأبرز الذين ينتمون لهذا الجيل.
حين يسبق الجمهور العمل الفني: رحلة فناني جيل زد إلى الأضواء
إحدى أبرز المزايا التي يتمتع بها الفنانون من جيل زد هي قدرتهم على بناء قاعدة جماهيرية كبيرة قبل حتى أن يخطوا خطواتهم الأولى في مجال الفن بشكل احترافي. يعود هذا إلى تأثير مواقع التواصل الاجتماعي التي أتاحت لهم منصات للتواصل مع جمهور واسع، واستعراض جوانب من شخصياتهم وحياتهم اليومية بطرق جذابة. هذه الظاهرة، التي تعد جديدة مقارنة بالأجيال السابقة، تُظهر كيف يمكن للموهبة والطموح أن يندمجا مع التقنية لإحداث تأثير كبير.
ما يميز هؤلاء الفنانين هو إدراكهم لأهمية بناء الحضور الرقمي في وقت مبكر. بفضل رغبتهم في العيش تحت الأضواء والتأثير على الآخرين، يتبنون سلوكيات الفنانين حتى قبل أن يباشروا العمل الفني؛ فتراهم يتفاعلون مع الجمهور ويشاركون محتوى من حياتهم اليومية ويخلقون هوية فنية وشخصية تعبر عنهم قبل أن يُصدروا أغنيتهم الأولى.
الأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها الشامي، نجم غلاف بيلبورد عربية الأول في عام 2025، والذي يُعتبر الفنان الوحيد الذي تصدّر قائمة هوت 100 بأكثر من أغنية. كان الشامي قد بدأ بالظهور واكتساب شعبية عبر تيك توك، حيث نجح في جذب انتباه الجمهور بشخصيته الكاريزمية، قبل أن تنطلق مسيرته الغنائية الاحترافية، لينجح بتأسيس قاعدة جماهيرية مخلصة جعلت انطلاقته الموسيقية أكثر قوة وتأثيرًا.
وكذلك يبرز طلال سام، الذي حصل على جائزة أفضل وجه جديد في فئة الموسيقى عام 2024، كان قد بدأ بالظهور على مواقع التواصل الاجتماعي كـ "جيمر"، وحصلت قناته على يوتيوب على جيش من المتابعين المُحبين لألعاب الفيديو، قبل أن ينتقل إلى مجالات متعددة، ويصنع بودكاست، وقبل أن يتوجه للغناء أيضًا.
لكن المثال الأبرز يبقى بيسان إسماعيل، التي يُتابعها الملايين بسبب فيديوهات الحياة اليومية والمقالب التي تنشرها على يوتيوب منذ سنوات طويلة، وشكل جمهورها القاعدة الشعبية المتينة والمخلصة لها عندما بدأت مسيرتها الموسيقية الاحترافية، التي وصلت مؤخرًا إلى مستوى جديد مع أغنيتها الأخيرة "الحربين" التي تُنافس على المراتب الأولى في قائمة هوت 100.
هذه الاستراتيجيات الجديدة جعلت الفنانين من جيل زد قادرين على تخطي الخطوات التقليدية للنجاح، فهم لا ينتظرون اكتشافهم من قِبَل منتجي الموسيقى أو وسائل الإعلام التقليدية، بل يعملون على خلق فرصهم بأنفسهم عبر المنصات الرقمية. هذا الأسلوب يمنحهم استقلالية أكبر ويتيح لهم التحكم في صورتهم الفنية، بالإضافة إلى تفاعل مباشر ومستمر مع جمهورهم. وبهذه الطريقة، أعاد الجيل زد تعريف كيفية بناء النجومية في العالم العربي، مستفيدين من التكنولوجيا والرغبة في التأثير والإبداع.
جيل زد: صناعة الموسيقى كفعل فردي
التنوع الكبير الذي يميز الموجات الجديدة في مختلف المشاهد الموسيقية العربية، والتي يقودها فنانو الجيل زد، يعود بشكل رئيسي إلى اعتمادهم على أنفسهم في الكتابة والتلحين وتمردهم على آليات صناعة الأغنية العربية التقليدية ليكونوا فنانين شاملين، وتتحول صناعة الموسيقى معهم إلى فعل فردي.
لعل منصات التواصل الاجتماعي التي أتاحت لهم مساحة حرة لعرض إبداعهم، ساهمت برسم خارطة صناعة الموسيقي؛ ليتميز فنانو الجيل زد برغبتهم في خوض تجاربهم الموسيقية بشكل مستقل ودون انتظار، حيث لم يعتمدوا على البنية التقليدية لصناعة الأغنية العربية التي تستند منذ الثمانينيات إلى ثلاثة أركان: الشاعر الغنائي والملحن والموزع الموسيقي. وفضّلوا بدلاً من ذلك الاعتماد على أنفسهم في الكتابة والتلحين، مما أتاح لهم تقديم أعمال تعبر عن شخصياتهم ومواهبهم بشكل أكبر.
من الجدير بالذكر أن بعض فناني الجيل السابق، جيل واي أو جيل الألفية، كانوا قد تمردوا على هذه البنية أيضًا، من خلال تشكيل الباندات الموسيقية واعتماد الفنانين في بداية مسيرتهم على التجارب الجماعية التي تُحفّز على الإبداع وتحديد الأدوار، والتي قد يخرج منها فنانون موهوبون، بالغناء أو التلحين أو التأليف أو التوزيع الموسيقي، بعد أن يُقدم الشباب الموهوبون أنفسهم للجمهور في حفلات حية. أو قد تستمر هذه التجارب كفرق موسيقية؛ لاتزال إلى اليوم تُشكل الثقل الأكبر في مشهد الإندي العربي.
في المقابل، حوّل فنانو الجيل زد صناعة الموسيقى إلى فعل فردي؛ معتمدين على المنصات الرقمية التي سهّلت لهم الوصول إلى الجمهور دون الحاجة إلى وسطاء تقليديين، ودون أن يخوض عدد كبير من فناني هذا الجيل أي تجارب خارج إطار الشاشات؛ فعلى سبيل المثال، كانت أول حفلة للشامي بعد مرور أكثر من 3 سنوات على انطلاقته الفنية! وبعد أن أصدر أكثر من 20 أغنية. وكذلك الأمر بالنسبة للسيلاوي الذي تأخر كثيرًا قبل أن يقف أول مرة على خشبة المسرح. فهؤلاء كتبوا ولحنوا أغانيهم بأنفسهم منذ بداية مسيرتهم، ومارسوا صناعة الموسيقى والترويج لأعمالهم عبر المنصات الرقمية، قبل أن يحتكوا بالجمهور أو بالتجارب الموسيقية المحيطة بهم. أدى ذلك إلى تفرد صوت فناني الجيل زد وتجريبهم بألوان موسيقية متنوعة، بالمقارنة مع الأجيال السابقة التي كانت تعتمد على أسماء معدودة في التأليف والتلحين، تُساهم بصناعة أغاني الفنانين المتنافسين، ليكون الاختلاف حينذاك بالصوت وأسلوب الأداء، ويتوقف النجاح على حسن الاختيار.
من ناحية أخرى، فإن العديد من فناني الجيل زد كانوا يُساهمون بصناعة أغانيهم بشكل جزئي، بالكتابة أو التلحين، دون تشكيل قطيعة مع آليات صناعة الموسيقى التقليدية، مثل لازارو، الذي يكتب بعض أغانيه ويُلحن أغاني أخرى، مع احتفاظه بالرغبة بالعمل الجماعي لتطوير أغانيه التي كان له دورًا واضحًا بصياغتها منذ البداية.
وما نُلاحظه مؤخرًا أيضًا، أن موجة صناعة الموسيقى الفردية تزداد اتساعًا، لتشمل مؤخرًا فناني الجيل زد الذين حافظوا على أركان صناعة الأغنية الثلاث، وتعاونوا بتجاربهم الأولى مع شعراء وملحنين محترفين؛ ليبدؤوا بكتابة كلمات أغانيهم ويلحنوها بأنفسهم، مثل بيسان إسماعيل، التي كتبت ولحنت أغنيتها الأخيرة "الحربين". ونُلاحظ أيضًا أن معظم الفنانين لايزالون يتعاونون مع موزعين أو منتجين موسيقيين؛ لتكون بنية صناعة الموسيقى شبيهة بالراب.. وهو ما يقودنا إلى الميزة الثالثة.
نسبة كبيرة من فناني الجيل زد خاضوا تجارب الراب في البداية
رغم أن جيل زد جلب معه أسلوبًا جديدًا في تقديم الموسيقى، إلا أن علاقته مع الجيل الذي سبقه، المعروف بجيل الألفية، لم تكن انقطاعًا حادًا؛ فقد تأثر العديد من فناني الجيل زد بالموجة التي قادها جيل الألفية في الراب العربي، الذي استخدم للتعبير عن القضايا الاجتماعية والشخصية. هذا التأثير يظهر في تجارب متعددة، حيث بدأ بعض فناني الجيل زد بالراب كوسيلة للتعبير، ثم انتقلوا إلى موجة البوب الجديدة.
بعض نجوم الجيل زد بدأوا بصناعة أغاني راب، ولكن لم يحققوا نجاح يُذكر، لينتقلوا منه إلى أنماط موسيقية متنوعة، مثل الشامي، الذي شكّل قطيعة مع تجاربه الأولى عندما ابتكر لونه الخاص والمميز، ليُصبح رائدًا في موجة البوب ليفانتين الجديدة.
آخرون، مثل ويجز وبيغ سام، حققوا نجاحًا كبيرًا في الراب، قبل أن يخوضوا تجارب غنائية بأسلوب خاص، ليتمكنوا من فرض أنفسهم كفنانين شاملين وقادرين على اللعب بجنرات موسيقية متعددة، ليصعب بعد نجاحهم تصنيفهم ضمن جنرا موسيقية معينة. حيث كانت أغنية ويجز "البخت" بوابته لدخول قوائم بيلبورد عربية المستحدثة في نهاية 2023، مما جعل البعض يظنه هجر مشهد الراب، الذي عاد إليه في 2024 بطريقة لا تقل إثارة.
بينما يبدو البعض أكثر تنوعًا وانفتاحًا بتجاربهم الموسيقية بعد البداية بالراب، مثل توو ليت، الذي ضمّ ألبومه الأخير "كوكتيل غنائي" أغاني من جنرات موسيقية متعددة، كالبوب البديل والراب والبوب اللاتيني؛ ليعكس ذلك التنوع الفني والانفتاح الموسيقي لفناني الجيل زد في العالم العربي؛ بالمقارنة مع فناني الأجيال السابقة.
الفن كوسيلة للتعبير عن الهوية لدى جيل زد
ولا يكتمل الحديث عن فناني الجيل زد في العالم العربي، دون النظر إلى تجارب الفنانين المغتربين أو الذين يحملون جنسيات أمريكية أو أوروبية وهم من أصول عربية، والذين انفتحوا على سوق الموسيقى العربية، مثل سانت ليفانت وإليانا وديستانكت ودانا صلاح وغيرهم. وصول هذه الأسماء في الماضي للجمهور العربي كان ليكون مهمةً أصعب في الماضي حين كان الفنانون يضطرون للانتقال والعيش في بلدان نشطة فنيًا لتبدأ مسيرتهم، أما اليوم فقد سهلت التكنولوجيا الوصول للجميع، وقصرت المسافة بين الجمهور والفنان.
ساهم هؤلاء من خلال تفاعلهم مع المشهد الموسيقي العربي بإغنائه، بالأفكار والقضايا وحتى بالتراث الموسيقي؛ حيث مثلوا خطوة جديدة في استكشاف العلاقة بين التراث الموسيقي العربي والأنماط الموسيقية الحديثة. رغم أن محاولات المزج بين التراث والحداثة ليست جديدة، إلا أن هذا الجيل أضاف إليها رؤية خاصة، حيث قام بتكييف التراث بما يناسب الأذواق العالمية والمحلية في آن واحد. هذه التجارب لم تقتصر فقط على استلهام التراث، بل عملت على إعادة تقديمه بطريقة تُبرز خصوصيته وتعكس في الوقت نفسه انفتاح هذا الجيل على الأنماط الموسيقية الحديثة.
أحد الأمثلة البارزة هو إليانا، الفنانة ذات الأصول العربية التي تعيش في الولايات المتحدة. قدمت إليانا أغنية "خمرة الحب" للفنان الراحل صباح فخري تحت اسم "الشام"، بتوزيع وأداء مختلفين كليًا، دمجت فيهما بين الأسلوب الغربي وروح تراثية سورية من منظور استشراقي، لتُغرّب الأغنية عن سياقها وتجعلها مختلفة عن أي كوفر يُقدم للأغنية.
لكن هذه الرؤية الخاصة تختلف من فنان لآخر، فدانا صلاح التي بدأت مسيرتها الفنية بالإلكترو بوب، وبأغاني باللغة الإنكليزية، شهدت مسيرتها الموسيقية تحولًا حادًا، مع تحولها إلى البوب الفلاحي (بحسب تسميتها)، لتستلهم أصوات من التُراث والطقوس الفلسطينية في أغانيها العربية الأولى، مثل "وينه"، ولتُقدم أغنية "يا طالعين" التُراثية بأسلوب أقرب للأصل. والأصوات المستلهمة من الطقوس والتراث، حضرت بأغاني هذه الفئة من الفنانين، كالزغاريد والشهقات، لتُمثل هذه الأصوات جزءًا أصيلًا في المزيج الموسيقي لأغاني سانت ليفانت وغيره.
وإلى جانب مزجهم الفريد بين التراث والحداثة، يحمل فنانو جيل زد المغتربين من ذوي الأصول العربية رسالة أعمق من مجرد تقديم الموسيقى. يعيش العديد من هؤلاء الفنانين في بلدان غربية مثل أوروبا وأمريكا، مما جعلهم يواجهون أسئلة الهوية والانتماء بشكل مباشر. هذه التجارب تُترجم في موسيقاهم إلى محاولات للتعبير عن التحديات التي يواجهونها كمغتربين، إلى جانب اهتمامهم بالقضايا العالمية. فنانون مثل سانت ليفانت يمثلون هذه الروح؛ إذ يعكس في أعماله قضايا الهجرة، والاندماج، والبحث عن الهوية الثقافية. هذه المواضيع تجد صدى عالميًا وتضع هؤلاء الفنانين في مقدمة مشهد موسيقي يجمع بين الفردية والتأثير الاجتماعي.