ابتسام لطفي هي أشهر مطربة سعودية ربما لم تسمع بها من قبل. منيرة المهدية لم تكن مجرد صوت؛ كانت سيدة المسرح والموسيقى في زمن كانت فيه النساء بالكاد يظهرن على خشبات المسارح. أما سليمة مراد، فقد توجها إبداعها بلقب كان يُمنح للرجال فقط.
هؤلاء، وأسماء أخرى أكثر شهرة مثل أم كلثوم وفيروز فتحن أبوابًا ظلت مغلفة أمام النساء لسنوات. ما يجمعهن ليس موهبة استثنائية وحسب، بل شجاعة في تخطي التقاليد وإعادة كتابة قواعد اللعبة الفنية. لم يكنّ مجرد فنانات، بل كنّ قادة لحركة فنية غيرت مسار الموسيقى العربية للأبد.
في إطار احتفال بيلبورد عربية بيوم المرأة، نقدم لكم قائمة تحكي قصة رائدات الغناء في العالم العربي وشمال إفريقيا للتذكير أن الموسيقى كانت وستظل دائمًا طريق التحدي والابتكار، ووسيلة للتعبيرعن الهوية والحرية والتمرد.
في الخليج العربي
ابتسام لطفي
كانت من أوائل المطربات السعوديات اللواتي وصلن بصوتهن إلى الجمهور العربي. ساهمت قدراتها الصوتية في نقل الغناء السعودي النسائي من إطار الفلكلور البسيط إلى عالم الأغنية الحديثة. حظيت بتقدير عمالقة الطرب في العالم العربي، حتى أن الشاعر أحمد رامي لقّبها بـ "كوكب الجزيرة" بعدما غنّت من كلماته بألحان عمالقة بحجم رياض السنباطي ومحمد الموجي.
ابتسام لطفي وُلدت فاقدة للبصر، الأمر الذي ترك أثرًا كبيرًا على مسيرتها الفنية؛ فاعتمادها الكبير على حاسة السمع جعلها تتقن فنون الطرب والمقامات الموسيقية، مما أكسب صوتها عمقًا وشجنًا كبيرين.
ورغم ابتعاد ابتسام لطفي عن الساحة الفنية منذ أواخر الثمانينات، ظلّت بصمتها حاضرة بقوة. حافظ جمهورها على إرثها الفني وطالب بعودتها مما شجّعها على ظهورٍ خاطف عام 2013 بعد 25 عامًا من الاعتزال. لا تزال أغانيها تُعد مرجعًا للأغنية السعودية ومصدر إلهام للأجيال المتعاقبة من الفنانين.
عتاب
واحدة من أبرز الأصوات النسائية في تاريخ الموسيقى السعودية، ومن أولى المطربات اللواتي اقتحمن الساحة الفنية في المملكة. وُلدت في الرياض عام 1947، واشتهرت بكونها أول سعودية تقريبًا تنطلق في عالم الغناء الاستعراضي، مما جعلها رمزًا للمرأة السعودية في السبعينيات.
عرفت بتقديمها أغانٍ باللهجة السعودية بأسلوب استعراضي، ونجحت في فرض هذا اللون الفني في الخليج أولًا ثم في بقية العالم العربي بعد انتقالها لمصر.
توحة
الفنانة الشعبية السعودية توحة كانت من أولى الأصوات النسائية من الخليج العربي بأكمله لتقدم الفن الشعبي على المنصات الرسمية في منتصف القرن الماضي. وُلدت في مدينة الأحساء بالمملكة العربية السعودية في الأربعينيات، وبدأت مشوارها الفني في سن مبكرة، حيث استطاعت بصوتها الفريد وأدائها الحيوي أن تلفت الأنظار سريعًا في المشهد الفني الشعبي.
قدمت توحة العديد من الأغاني التي لاقت رواجًا كبيرًا في المملكة ودول الخليج. كانت تُلقب بـ"سفيرة الفن الشعبي" نظرًا لحرصها على الحفاظ على التراث السعودي وتقديمه بأسلوب حديث يُرضي الأجيال الجديدة مع أغاني مثل "أشرلي بالمنديل"، و"يا ليل دانا"، و"يا محلا الفنجال".
خلال مسيرتها الفنية، تعاونت مع العديد من الشعراء والملحنين البارزين، وأسهمت في انتشار الأغنية الشعبية السعودية خارج حدود المملكة. وبرغم ابتعادها عن الأضواء في السنوات الأخيرة، إلا أن إرثها الفني لا يزال حيًا يُلهم الفنانين الشعبيين الجدد ويُحافظ على التراث الموسيقي السعودي.
في بلاد الشام
ماري جبران
من بيروت إلى دمشق وحلب خلال الحرب العالمية الأولى، ومنها إلى القدس ثم القاهرة وعودة إلى دمشق مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، عرفت كل هذه المدن ماري جبران أو "ماري الصغيرة" أو "ماري الجميلة"، وسمع جمهور متنوع صوتها وإبداعها في فترة كانت تقنيات التسجيل تبدأ لتوها بالظهور.
كثرة التنقل وأداؤها الحي في مدن الابداع والطرب سمح بوصول صوتها إلى نخبة ملحني تلك الحقبة، فغنت في مصر من ألحان سلامة الحجازي ومحمد القصبجي وزكريا أحمد. وعند عودتها للاستقرار في دمشق بعد أكثر من عقدين على احترافها الغناء، كانت أول امرأة تغني عبر أثير إذاعة دمشق عام 1947.
بدأت هناك سلسلة تعاوناتها مع ملحنين سوريين مثل نجيب السراج ورفيق شكري اللذان قدما صوتها ضمن قوالب أغاني عاطفية جديدة. وبلغت أوج مجدها في دمشق في خمسينيات القرن الماضي، وكانت من أولى الفنانات اللواتي كرمن بعد تأسيس نقابة الفنانين هناك.
سليمة مراد
أطلق نوري السعيد، رئيس الوزراء في العهد الملكي في ثلاثينيات القرن الماضي في العراق، لقب "باشا" على الفنانة التي بقيت تعرف باسم سليمة باشا إلى أن أصدرت الحكومة العراقية قانونا بإلغاء الرتب العثمانية. جاءت هذه الإضافة لاسمها تمييزًا لها وإنجازاتها كامرأة سباقة في الأغنية العراقية.
كانت سليمة مراد من أولى الفنانات اللواتي دخلن الإذاعة في العراق، وأول فنانة عراقية تسافر بالطائرة لتغني في بلد آخر. ولربما كانت أيضا أول مغنية تحظى بالثناء من أم كلثوم، التي اجتمعت معها في حفل واحد في ملهى الهلال عام 1935. ليلتها سمعتها أم كلثوم وهي تؤدي "قلبك صخر جلمود"، إحدى الأغاني الكثيرة التي لحنها لها الأخوان صالح وداوود الكويتي، فتأثرت بها وحفظتها عنها وقيل أنها سجلتها بصوتها بعد عودتها إلى مصر ضمن اسطوانة نادرة.
عاشت سليمة مراد قصة حب مؤثرة مع الفنان الكبير ناظم الغزالي، تشاركت معه الشغف والنشاط الفني، إلى حين وفاته في نهاية الخمسينيات التي أوقفتها عن الغناء.
فيروز"جارة القمر" و "عصفورة الشجن" .. منذ خمسينيات القرن الماضي تحولت نهاد حداد (اسمها الحقيقي) من مجرد مطربة إلى ذاكرة صوتية لعشاقها في لبنان والعالم العربي. قدمت أعمالًا خالدة مع الأخوين رحباني خلقوا فيها لغة موسيقية فريدة امتزجت فيها مشاعر الحب بالانتظار والغربة بالوطن.
غنت عن الحب والحرب، فكانت الصوت الذي جمع أفرقاء الحرب الأهلية في لبنان. غنت (البوسطة) عن رحلة حافلة ركاب بين قريتين فحولتها إلى علامة فارقة في تاريخ الموسيقى اللبنانية.
لا يمكن فصل تجربة فيروز عن عاصي ومنصور الرحباني، وعن ابنها زياد فيما بعد، غير أنها غنت أيضًا مع ملحنين كبار مثل فلمون وهبة وزكي ناصيف، وغنّت لكبار الشعراء، منهم سعيد عقل، الذي أطلق عليها لقب "سفيرتنا إلى النجوم".
نجاح سلام (1931 - 2023)
تعد نجاح سلام صوت أساسي في تشكيل هوية الموسيقى اللبنانية بعد الاستقلال، عندما بدأ مسيرتها خلال فترة الأربعينيات، وكانت واحدة من أوائل المطربات اللواتي ساهمن في تشكيل هذه الهوية، حيث قدمت أغاني مثل "برهوم حاكيني" و"ميّل يا غزيل".
قدمت العديد من الأغنيات التي جسدت تنوعها الفني، حيث تنقلت بين الألحان الجبلية اللبنانية، إلى الأغنية الطربية المصرية حيث عاشت فترة في القاهرة وغنت في عدد من الأفلام، وصولًا إلى الأغاني الوطنية مثل "سوريا يا حبيبتي". هذا التنوع الذي امتاز به مسارها الفني هو الذي يجعلها، حتى اليوم، واحدة من أيقونات الموسيقى العربية.
في مصر
أم كلثوم ( 1898 - 1975 )
لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة، بل كانت ظاهرة فنية استثنائية صنعت مجد الأغنية العربية كما لم يفعل أحد قبلها أو بعدها. وُلدت فاطمة إبراهيم السيد البلتاجي عام 1898 في دلتا مصر، وبدأت الغناء في سن صغيرة، حيث بدت موهبتها وكأنها نبوءة بمستقبل لن يتكرر. في عشرينيات القرن الماضي، انتقلت إلى القاهرة، حيث تحوّلت من صوت واعد إلى مدرسة غنائية متكاملة، تتعاون مع عمالقة التلحين والشعر العربي مثل محمد القصبجي، رياض السنباطي، وزكريا أحمد، قبل أن تشكّل مع محمد عبد الوهاب أحد أعظم الثنائيات الموسيقية في التاريخ.
لم يكن صوت أم كلثوم مجرد أداة غنائية، بل كان معجزة صوتية حاول العلم تفسيرها. كشفت دراسات موسيقية أن نسبة النشاز في صوتها لا تتجاوز واحدًا في الألف، وهي درجة من الكمال لم تُسجّل لأي فنان آخر. قدرتها على التحكم في طبقات صوتها، وامتداد النفس الطويل في غنائها، جعلت كل أغنية لها بمثابة رحلة طربية.
لكن تأثيرها لم يكن فنيًا فقط، بل امتد إلى السياسة والمجتمع، حيث لعبت دورًا وطنيًا بارزًا في الأوقات المفصلية لمصر والعالم العربي. بعد نكسة 1967، جابت العواصم العربية لإقامة حفلات يعود ريعها لدعم المجهود الحربي، مؤكدة أن صوتها لم يكن يومًا مجرد ترف، بل سلاحًا في لحظات المصير. كانت رمزًا للوحدة، حيث اجتمع الملايين حول صوتها، من المحيط إلى الخليج، في لحظة نادرة من التوافق العربي الذي لم يتحقق في السياسة كما تحقق في أغانيها.
منيرة المهدية ( 1885 - 1965)
منيرة المهدية كانت أكثر من مجرد صوت، كانت قوة حقيقية. عُرفت بلقب "سلطانة الطرب"، وكانت أول امرأة مصرية يُسجّل صوتها على الأسطوانات، مما شكّل بداية لعصر جديد في الموسيقى العربية.
في القاهرة أوائل القرن العشرين، أعادت منيرة تعريف مفهوم الترفيه. قادت ثورة مسرحية دمجت بين الغناء والرقص والكوميديا والدراما في عروض ليلية طويلة أسرت قلوب الجماهير. فرقتها المسرحية تُذكر اليوم كواحدة من أوائل الفرق التي قادتها امرأة في مصر، وعُرفت ببساطة باسم "فرقة منيرة المهدية".
لم تكن عروضها مجرد تسلية، بل كانت إعلانًا عن الفن والحضور والإمكانات. قدمت منيرة أسلوبًا جديدًا في الموسيقى المصرية، حيث ابتعدت عن الهياكل الكلاسيكية الصارمة وأفسحت المجال لشيء أكثر انسيابية وعفوية، كما يظهر في أغنيتها الشهيرة "الحب دح دح".
غنت منيرة بقوة وصراحة، مجسدةً نوعًا جديدًا من التعبير الأنثوي الذي كان جريئًا ولا يعتذر. ويتضح ذلك في أغنيتها "بعد العيشة"، حيث قدمت صوتًا وحضورًا وفنًا أعاد تشكيل الموسيقى والمسرح. لم تترك منيرة المهدية مجرد إرث، بل بنت مسرحًا لأجيال قادمة. وحتى بعد إسدال الستار الأخير، تبقى سلطانة الطرب لا تُنسى.
ثريا حلمي ( 1923 - 1994 )
لم تكن ثريا حلمي المرأة الأولى على الإطلاق في عالم المونولوج، إذ تستذكر هي بنفسها في الحديث عن فترة تألقها في الأربعينيات أنها زاملت في تجربتها أسماءً مثل فتحية شريفة وفتحية محمود عفيفة إسكندر القادمة من العراق. إلا أن أثرها الكبير جاء من تفانيها في هذا اللون من عمر صغير، إذ تذكر المصادر أنها كانت المونولوجست الأصغر سنًا في مصر وفي العالم العربي بأكمله، ويعود ذلك لأنها ولدت لأسرة فنية بامتياز، ودخلت عالم المسرح والسينما وهي ما تزال في التاسعة من عمرها.
قضت ثريا حلمي كامل عمرها في عالم الفن، متنقلةً بين تجارب المسرح والسينما، جامعة بين التمكن الصوتي والأداء الاستعراضي والمهارات التمثيلية، حتى ارتبط إرث المونولوج المصري باسمها ارتباطًا عميقًا، بعدما سجلت أكثر من 300 مونولوج، إلى حين خفوت شعبية اللون من نهاية الستينيات، لتستمر مسيرتها هي بكل الأحوال كمغنية وممثلة إلى حين رحيلها في العام 1994.
في شمال أفريقيا
الحاجة الحمداوية (1930 - 2021)
واحدة من الأسماء البارزة في تاريخ الأغنية المغربية، ومن الرائدات في فن العيطة. ولدت في حي درب سلطان بالدار البيضاء، وحققت شهرة واسعة في الخمسينيات، حيث كانت صوتًا مميزًا في فترة الأغنية الشعبية المغربية. تتميز أغانيها بالكلمات العميقة بالإضافة إلى قدرتها الصوتية العالية التي جعلت من فن العيطة أكثر قوة وانتشارًا.
قدمت العديد من الأغاني الشهيرة مثل "جيتي ماجيتي" و"منين أنا ومنين انت"، وظلت طوال حياتها الفنية تساهم في تطوير هذا النوع الموسيقي. ورغم التحديات المادية التي واجهتها في الثمانينيات، رفضت الحمداوية اعتزال الغناء وظلت تؤدي أغانيها التي تعكس القيم الثقافية المغربية، حتى رحيلها في عام 2021 عن عمر يناهز 91 عامًا.
الشيخة ريميتي (1923 - 2006)
بدأت مسيرة الشيخة ريميتي في الخمسينيات لتكون واحدة من رائدات الأغنية الجزائرية، و تساهم في تأسيس جنرا الراي معتمدة على جذورها البدوية في الكتابة والغناء. اشتهرت مع أولى اسطواناتها "شرك قطع" واكتسبت شهرة واسعة بفضل كلماتها الجريئة وصوتها القوي الذي عبّر عن تجاربها الشخصية ومشاعرها. كما غنت للنساء والفقراء والمهاجرين في الجزائر، ووثقت أغانيها حقبة كبيرة من التاريخ الاجتماعي والثقافي للمنطقة.
في الثمانينيات، انتقلت إلى فرنسا بعد أن واجهت منعًا من الغناء في الجزائر، لكنها استمرت في إحياء إرثها الفني عبر تعاونات دولية مع موسيقيين عالميين، وحققت النجاح في دمج الراي بالتأثيرات الغربية. ألهم أسلوبها الجريء في كتابة الأغاني والأداء العديد من الفنانين في جنرا الراي وخارج هذا النوع.
صليحة (1914 - 1958)
بعد تأسيس مدرسة الرشيدية في منتصف الثلاثينيات عقب توصيات المؤتمر الأول للموسيقى العربية في القاهرة، ظلّ رهان المدرسة الوليدة البحث عن الصوت الذي سيكون عماد المشروع الموسيقي الوطني لتونس.
تقدمت فتاة بدوية كانت تعمل في منازل الأعيان إلى لجنة الاختبارات وأبهرت الحاضرين بأدائها. كان ذلك ميلاد المغنية صليحة، أهم صوت نسائي في تاريخ تونس قادمٍ من أعماق الكاف على الحدود التونسية الجزائرية.
حملت صليحة صوتًا بدويًا في خامته ونصوصه، واستوعب الموسيقى الحضرية وإيقاعاتها، وشكّل ملتقىً لتجارب الملحنين والموسيقيين والشعراء الغنائيين. استمرت في الغناء بالرغم من حياة قاسية ومتقلبة وانتزعت مكانتها في قلب المشروع الوطني الموسيقي متفوقةً على نظيراتها لتكون الصوت الذي اختزل ملامح تشكّل الهوية الموسيقية التونسية.